الكتاب:: Borges A Life
المؤلف: Edwin Williamson
الناشر: Viking Books 2004
عندما رحل كاتب القصة القصيرة والمقال الأرجنتيني خورخي لويس بورجيس عن عالمنا عام 1986 كان قد أشعل ثورة في أدب أمريكا اللاتينية وترك خلفه ملايين المعجبين في كل أنحاء العالم.
والآن جاء إيدوين وليامسون أستاذ الأدب الأسباني في جامعة أوكسفورد البريطانية المرموقة ليخرج علينا بكتاب سيرة ذاتية غير مسبوقة للاديب الأسباني الشهير.
اعتمد وليامسون على عشرات المقابلات والبحث والتنقيب في المصادر التي لم تكن معروفة أو متاحة من قبل بأي لغة من لغات العالم لبورجيس ليكتب أول سيرة ذاتية.
حملت السيرة الذاتية عنوان بورجيس. وفي هذا الكتاب سلط وليامسون الضوء على الجانب الإنساني غير المعروف للكثيرين لدى الأديب الأرجنتيني وجذوره في الأرجنتين و أفكاره السياسية وعن أصدقائه وأفراحه وأتراحه.
كما أعاد وليامسون بناء الديناميكية للعالم الداخلي لبورجيس من خلال المزج بين معلومات السيرة الذاتية ونصوص من أعماله الأدبية. يرصد الكتاب الصراعات الداخلية للأديب العالمي ورغباته وقيمه التي تقوده في الحياة والأدب. وهذه الدراسة النادرة تكشف الكثير من الجوانب الغامضة التي غلفت حياة بورجيس الغامضة. وكانت نتيجة هذا العمل البحثي رفيع المستوى هو إعادة رسم صورة هذا الأديب بشكل أدى إلى تغيير جذري في الطريقة التي ننظر بها لهذا الأديب المعاصر. والحقيقة أن كتابة سيرة ذاتية لشخص لم يفعل في حياته سوى التفكير والقراءة ليبدع بعد ذلك من المهام شديدة الصعوبة.
كما أن هذا الكاتب كان مصابا بقصر نظر تحول في منتصف عمره إلى عمى تقريبا كما أن عمله الوحيد كان في مكتبة وحياته كانت مع والدته ومديرة المنزل في شقة بالعاصمة الأرجنتينية بيونس إيرس حتى ماتت والدته وعمرها 99 عاما وكان هو في الخامسة والسبعين.
وقبل رحيلها بقليل كتب بورجيس بطريقة يملؤها الغموض (مكتبة والدي كانت الإنجاز الرئيسي في حياتي.. والحقيقة أنني لم أخرج منها طوال حياتي).
وكان رد وليامسون على هذه العبارة هي التركيز على كل ما يمكن أن تقوله كتابات بورجيس عن عالمه الداخلي وما يقوله عالمه الداخلي عن كتاباته.
وكان هذا المنهج مناسبا تماما للتعامل مع أديب من طراز بورجيس حيث تفوق أهمية أعماله الأدبية وكتاباته أحداث حياته الحقيقية.كما أن بورجيس نفسه يعترف بهذه الحقيقة حيث قال ذات مرة (كل الأدب عبارة عن سير ذاتية في التحليل الأخير). والحقيقة أن بورجيس كان واحدا من أشهر الشخصيات الأدبية وأكثرها تأثيرا في القرن العشرين. وقد وضع الرجل حدود نفسه بصورة لا يمكن لأحد أن يفعله بمثل هذا الوضوح. فهو لم يكتب شيئا أطول من القصة القصيرة والمقال. كما أنه كان مدركا لنفسه تماما.
وقد تدفقت خيالاته الشعرية عندما كان في العشرين من عمره عندما أصبح أحد المشاعل التي تنير الطريق أمام الأدب الأرجنتيني. ولكن هذا الخيال المتدفق أصابه الجفاف فترة طويلة.
لذلك فقد اتسمت بعض أعماله بقدر كبير من الغموض. ورغم ذلك كانت موهبة بورجيس أصيلة وغير عادية.
وقد كان قارئا نهما كما كان يتقد حماسا في تعلم اللغات ودراسة الآداب لدرجة أنه بدأ دراسة الأدب الأنجلو ساكسوني وهو في الستين من عمره تقريبا. كما قرأ الفلسفة والميتافيزيقا والقصص البوليسية. وكما كان الحال مع الأديب العالمي كافكا فإنه كان لديه شعور حاد بهشاشة الهوية الشخصية. لذلك فقد كان حريصا على إضافة جو من البهجة على اللغة وقدراتها.
وكان حبه للألغاز والأحاجي سببا في إضفاء نوع من الخيال على ما كان كتاب أمريكا اللاتينية الآخرين يسمونه (واقعية) وهو ما أدى إلى ميلاد نوع أدبي جديد في أداب أمريكا اللاتينية. وأي مطالعة للكتاب الرائع الذي أخرجه لنا الدكتور إيدوين وليامسون تشير إلى أن الرجل لم يترك قصاصة ورق كتبها بورجيس دون أن يقرأها ويحللها. كما أنه لم يترك أي كلمة كتبت عن هذا الأديب دون أن يحللها بالإضافة إلى سلسلة لقاءات مع العديدين من الأشخاص الذين كانوا يعرفون بورجيس. وكانت النتيجة هي الخروج علينا بمجموعة من النظريات والشروح الجديدة لأعمال وشخصية بورجيس.
على سبيل المثال اكتشف وليامسون أن أغلب أشعار وقصص بورجيس كانت بصورة أو بأخرى محاولات للتعبير عن تجارب الحب الفاشلة التي عانى منها وبخاصة رفض ابنة عمه نورا لانجي الارتباط به عندما كان في العشرينيات من عمره. فقد وجد بورجيس نفسه فريسة للشعور بعدم الأهمية نتيجة حياته مع أم متسلطة لم يكن لها أي حديث سوى عن أمجاد الأجداد الأرجنتينيين وأبطال حركة الاستقلال وبوالده غير المؤثر الذي فشل في الحياة سواء كثوري أو ككاتب.
هذه القناعة التي سيطرت على بورجيس بعد الأهمية والقيمة في الحياة تكررت كثيرا في أعماله.
في الوقت نفسه فإن وليامسون نجح في وضع بورجيس في السياق العام للتاريخ الأرجنتيني لتلك الدولة التي انزلقت من مكانتها بين دول العالم الأولى إلى صفوف دول العالم الثالث خلال سنوات حياة الأديب الكبير.
فعندما كان بورجيس في سن المراهقة كان مرتب والده كموظف في إحدى المحاكم ومعلم للغة الإنجليزية يكفي لكي تسافر العائلة بما فيها جدته الإنجليزية الأصل إلى سويسرا واسبانيا لسنوات عديدة.
وكان أقصى طموحات بورجيس، آنذاك، هو أن تصبح الأرجنتين دولة ديموقراطية من الدرجة الوسطى وليس من دول العالم الديموقراطي الأول. ولكن هذا الحلم تحطم على صخرة حكم الرئيس الأرجنتيني بيرون من عام 1946 إلى 1955.
وكان العداء العاطفي لحكم بيرون قد قاد أديب الأرجنتين الأول إلى موقف مناقض تماما حيث تبنى بعد ذلك الديكتاتورية العسكرية التي حكمت الأرجنتين خلال الفترة من عام 1976 إلى 1983 التي عرفت بفترة الحرب القذرة.
وكان يرى أن هذه الديكتاتورية العسكرية (شر لا بد منه) ورغم سذاجة بورجيس السياسية فإنه رؤيته كانت أكثر نبلا مما كان يراه الكثيرون من نقاده ضيقي الأفق. وكان يرى نفسه جزءاً من ثقافة عالمية وليس كاتب أرجنتيني فقط. والحقيقة أنه بالفعل أديب أرجنتيني رغم انه في الوقت نفسه كاتب عالمي.
فقد مجد العالم السفلي لبيونس إيرس عاصمة الأرجنتين في بداية حياته حيث كان معجبا بهؤلاء المشردين الذين يدافعون عن حياتهم بسكاكين صغيرة لا تفارق جيوبهم.
ولكنه وفي لحظة غفلة عن قوميته الأرجنتينية اختار أن يموت في جنيف. ورغم تقلب الحياة بالرجل من نعيم إلى شقاء فإنها ابتسمت له تماما عندما بلغ الخمسينيات من عمره عندما اشتهر على الصعيد الدولي فجمع بين الثروة والشهرة معا حتى نهاية حياته. وقد كتب كثيرون من المعاصرين له إنه كان بمثابة ملهم لهم. بل إن كاتباً مثل أمبرتو إيكو ذهب إلى أبعد من ذلك فقال إن روايته (اسم الزهرة) هي مجرد امتداد لأدب بورجيس. كما ذكر وليامسون أن بورجيس عثر على الحب أخيرا مع ماريا كوداما. وقد تزوجها بورجيس قبل وفاته بقليل. وقد تعاونت ماريا مع وليامسون في إعداد الكتاب من خلال طرح رؤيتها للأحداث التي عاصرتها مع زوجها الأديب.
وليامسون رغم جهده الكبير المشكور في إعداد أول كتاب سيرة ذاتية عن الأديب لويس بورجيس تجاهل العديد من النقاط المهمة في حياة الأديب. فعلى سبيل المثال لم يشر الكاتب إلى أي شيء مما ورد في كتابات أدولفو بيوي كاركس صديق بورجيس الحميم والكاتب الكبير. ورغم نجاح وليامسون في تقديم كتاب يرسم صورة إنسانية للأديب وليس مجرد سرد تاريخي لأحداث حياته ولا مجرد قراءة نقدية لكتاباته فقد فاتته بعض النقاط. وربما لا توجد طريقة مقنعة للكتابة عن حياة بورجيس أفضل من التركيز على أعماله الأدبية.
وفي هذه الحالة سنكتشف إلى أي مدى كان بورجيس ماكراً لأنه تمكن من كتابة سيرته الذاتية وهو في القبر.
|