رمضان ذلك الشهر المبارك، شهر السلام والصيام، أحاله بعض المسلمين إلى شهر طعام، فكان حظهم في الاحتفال به والترحيب بقدومه هو مجرد تغيير مواعيد وألوان وأصناف الأطعمة التي يدسُّونها في بطونهم غير عابئين وغير مدركين للمرامي الأصلية النبيلة من الصوم.
إن لشهر الصيام مع الطعام نوادر وحكايات وأشعاراً وأخباراً، وبدلاً من أن يشعر بعض المسلمين بآلام الفقراء والمُعدمين وبمن تصيبهم المجاعات في كثير من أنحاء المعمورة فيتوجهون إلى العلي القدير بالشكر على نعمه الظاهرة والباطنة، ويقتصدون في الطعام ويسارعون إلى الخيرات، فإنهم يفرطون في التغذية.
وأول مظاهر الإفراط في التغذية في شهر رمضان زيادة أوزانهم بصورة مفرطة، ونسوا أو تناسوا أن بعض المصحّات العالمية تمارس عملية تجويع المرضى وتجبرهم على الصوم والامتناع عن الغذاء، وذلك بغية الوصول بهم إلى الوزن الطبيعي والصحي.
يقول الأستاذ محمد مبارك في كتابه الرائع (بستان رمضان): ليس من شك في أن الغذاء يعتبر من أهم الضرورات الحياتية، فلا غنًى عن الغذاء بألوانه لكل كائن حي. فكما جعل الله سبحانه وتعالى من الماء كل شيء حي، فإن كل شيء حي في حاجة إلى الغذاء.
قالوا: أربعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الموائد والمناخل والأشنان (الصابون) والشبع. يقول الغزالي رحمه الله: الأشنان ابتداع مستحسن من أجل النظافة، ووضع الطعام على المائدة لا بأس به، ونخل الدقيق تطييب للطعام ما لم يؤدِّ إلى التنعُّم المفرط، وأما الشبع فهو أشد الأربعة؛ فإنه يدعو إلى تحريك الشهوة وتحريك الأدواء (الأمراض) في البدن.
يحدثنا كتاب الموشي عن عيوب الآكلين، ويبين لنا ما ينبغي أن يعمد إليه الطاعم من آداب إذا جلس إلى المائدة. إن تصغير اللقمة خير، والترفع عن الشره والنهم خير. ومن آداب الطاعمين أنهم لا يأكلون الكرش ولا الطحال ولا الرئة، ولا يأكلون الثريد (الخبز الملطخ بمرق اللحم)، ولا يتبعون الدسم، ولا يملأون باللقم أفواههم، ولا يعجلون في مضغهم، ولا يأكلون بجانب الشدقين، ولا يزاوجون بين اللقمتين.
وفي عيون الأخبار أن رجلاً أوصى ابنه فقال: إذا أكلت فضمَّ شفتيك، ولا تتلفتن يميناً وشمالاً، ولا تلقمن بسكين أبداً، ولا تجلس قبل مَنْ هم أسنُّ منك وأرفع منزلة، ولا تمسح بثياب بدنك.
جاء رجل بجوارش (مهضم) إلى ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: ما هذا؟ قال: شيء يهضم الطعام. قال: ما أصنع به؟! إنه ليأتي عليَّ الشهر ما أشبع فيه من طعام.
ورد عن علي كرم الله وجهه قوله: البطنة تذهب الفطنة. وقال ابن المقفع: كانت ملوك الأعاجم إذا رأت الرجل نهماً شرهاً أخرجوه من طبقة الجد إلى طبقة الهزل، ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار.
دخل أحد الحمقى على الخليفة هارون الرشيد في إحدى الليالي الرمضانية وهو يأكل، فقال له الرشيد: هل لك في العشاء؟ فأجابه: إني صائم يا أمير المؤمنين. فسأله الرشيد: أمواصل أنت؟ فأجابه: لا، ولكني وجدتُ صيام الليل أسهل من صيام النهار، وحلاوة الطعام في النهار أفضل من حلاوته في الليل.
ورد عن القسطلاني قوله: إذا شبع الصائم عند فطره فقد قصَّر فيما يقتضي المزيد من أجره، فالشبع يورث القسوة، ويوفر الجفوة، ويثير النوم، ويجلب الكسل عن الطاعة.
كان محمد بن الجهم، وهو من رؤساء أهل البخل، يقول: وددتُ أن عشرة من الفقهاء وعشرة من الشعراء وعشرة من الخطباء وعشرة من الأدباء تواطأوا على ذمِّي واستحلوا شتمي حتى ينشر عنهم ذلك في الآفاق، فلا يمتد إليَّ أمل آمل، ولا ينبسط نحوي رجاء راجٍ. قال له أصحابه ذات يوم: إنما نخشى أن نقعد عندك فوق مقدار شهوتك، فلو جعلتَ لنا علامة نعرف بها وقت استحسانك لقيامنا. فقال: علامة ذلك أن أقول: يا غلام، هات الغداء!!
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية |