ولا غرو أن يأتي بيت (ص:13) مضيئاً، ففي البيت ( الشباب) وفيه (الحب) وفيه (المرأة)، وفيه الطفولة: حب غازي الراسخ الثابت الدائم المقيم.
والطفل هو السلطان المسيطر على غازي، لقد استولى على قلبه وروحه، لا أظن أن قدم حبه للطفل لا تحار وتقف عندما يرى صغيراً، حتى أكاد أقول:
إنه يحب صغار الذئاب.
ليت الشباب بعمر الحب.. يا امرأة
ما زال حبي لها طفلا.. وما فطما |
* أتقن الشاعر في (موانئ.. ومرافئ) (ص:14) إخفاء ما وصفه، واستعار الموانئ والمرافئ، والتردد بينها، وهو يقصد كثرة تنقله من حب أنثى إلى حب أنثى، وما يضيره أن يكون صريحا؟ وهو الشاعر الذي يقول ما لا يفعل. إنه الذوق في اختيار الصور المعبرة عن طريق البيان والبديع، وأسلوب الاستعارة، وإلباسها برداً بهيجا، يضفي جمالا لا يأتي بأسلوب آخر:
سلي المرافئ عني.. إنني رجل
أضنى المرافئ.. إبحاراً.. وإرساءَ |
وهو صديق لأنواع البديع، ويصرح أحيانا عن قربه من بعض أنواعه، فهذا (مجاز) (ص: 17) يستعيره لإحدى صوره المعبرة عن نظرة من نظراته إلى الحب، وقبل ذلك استعار (المقابلة) (التضاد)
تحبينني أنتِ.. في الكلمات
مجازاً يخاف دخول الحقيقة |
صورة ملموسة، فالحقيقة بيت والداخل المهيب حائر القدمين هو:(المجاز) هو صورة لحبيبة بضاعتها الكلام (وربما في التليفون!) بخل على بخل. هكذا الشعراء، ولهذا يتبعهم الغاوون.
وتأتي بضاعته التي ملأت فكره وشعوره وإحساسه: الشعر، فيأخذ منه صورة صادقة ملأى بالحكمة، وعصارة الحياة، وعمق تجربة المعاناة بين المحبين: ففي (شعر الدموع) (ص:18) يقول:
أسندي الرأس.. فوق صدري.. وابكي
رب دمع يزري بشعر الفحول |
البكاء يتقنه من أحس بسببه بصدق، وهو سهل بهذا، ولكن الشعر ليس من السهل إتقانه حتى من فحول الشعراء. هناك أمر مسلم به من أمور الحياة، وهو النظرة المحبة التي لا ترى إلا حسنا، حتى لو لم يكن حسنا إلا في عيون صاحبه، ورغم أن هذه النظرة في عيون غيره مخالفة إلا أن رائيها يصدق نفسه في أن محبوبته أحلى النساء:( زعم) (ص:20):
وأزعم أنك أحلى النساء
وأمضي أصدق ما أزعم |
هل هذا من العناد؟ أو أنه من العمى الذي يصيب المحبين ممن إذا ضرب سهم الحب قلوبهم شُلت وسائل الإبصار عندهم والبصيرة، واعتقدوا غير الصحيح صحيحا، فالقبيح، على هذا، جميل، والمظلم منير.
والنظرة السوداء تأتي من عتمة التشاؤم، فهو يقول في:( الصيف) (ص:21) إنه سوف يموت قبل الصيف القادم. وهذا هو المعنى الساذج للبيت، وسواء كان هذا ما أراده الشاعر، أو أنه جاء بهذا رمزاً للقاء يعده، ظنا أنه آخر لقاء، وسواءً كان هذا أو ذاك فهو تعبير يدخل في إطار قاعدة السهل الممتنع:
أبصرني الصيف هنا.. مرة
أشك أن يبصرني مرتين |
للشاعر بيت سلس معبر، ذاك الذي وصف به قلبه وقد تركه للهوى يعبث به، وفعل القلب هذا سائر به إلى حتفه، سواء كان هذا إخلافا لوعد، أو قطعاً لصلة، فإن لم يكن القارئ أدرك ما في هذه الأفكار، فقد رسمها الشاعر ماديا بصورة فراشة لا تستطيع مقاومة وهج الضوء، وفي الضوء حتفها واحتراقها:( الفراشة) (ص:21):
لا تعجبي! قلبي فراش الهوى
يقفز للنار، وفيها رداه |
وهذا المعنى يعيده بصورة أخرى في (سؤال محترف) (ص:62):
ولماذا والأسى يحرقنا
نستطيب العيش في ظل اللهب؟ |
ومن الصور البديعة التي اختارها صورة دمعتين تدمعهما عيناه: الدمعة الأولى يودع بها الأحباب، وهذا ليس المهم، وإنما المهم الدمعة الثانية التي يكتب برماد لوعتها كتبه، وهذا البيت:( دمعان) (ص:26) من الصور التي يعد فيها مبتكراً، وقد ساعده على رسم هذه الصورة الفريدة ما يعرفه الناس من حرقة فراق الأحبة، ولكنهم في هذا البيت يطلعون على سر خفي مبهم مخبأ، تتبين آثاره في الآهات التي لا تسمع وإنما ترى تسيل على الورق، دون أن يعرف الناس أنها دموع:
أودع أحبابي بظاهر أدمعي
وأكتب بالدمع الذي لا يرى الكتبا |
ويعتذر الشاعر ببيان مدهش عن حالة شرقية، تعيشها بعض البلدان العربية، في حالتها الراهنة:
(العذر) (ص:28):
يا سيدي! عفوك يا سيدي
إذا اكتفينا بحروب اللسان
فإننا أجبن أهل الوغى
وإننا أفصح أهل البيان |
وتأتي هذه الصورة بوجه آخر، وتلتقي مع السابقة عند تقاطع طريق قريب، في (هجاء) (ص:38) يقول:
وتنهش.. تنهش فينا الكلاب
ونقنع أنا هجونا الكلاب |
وتحيط به هذه الفكرة، فكرة عدم وجود قوة، والاستغناء عنها بالقول في:( بحار) (ص:42)، يقول:
يا بحار القريض! ماعز بحر
لم يصنه من العدا أسطول |
وتطل عاطفة حب الخير عند غازي في (المجد: تعريف) (ص:32) فيعرف المجد بأنه أن لا تبيت امرأة جائعة، وأن لا تفتقر طفلة فتلبس الخرق:
المجد ألا يضم الليل جائعة
المجد ألا تغطي طفلة خرق |
والشاعر، مع الحبيبات، في شد وإرخاء، مرة هو راض،وأخرى ساخط، ومرة هو كاسب، وأخرى خاسر، ومرة هو في موقف القوة، وأخرى في موقف الضعف، ومرة يقول قولا واضحا وأخرى يقول قولا مبهما.
في (قاطبة) (ص:33)، يقول إنه عشق حسان الأرض كلهن، فكان القتل في ذلك العشق، ومع هذا فهو يشكو إلى واحدة منهن حاله:
أشكو إليك حسان الأرض قاطبة
عشقتهن.. فكان العشق ما قتلا |
وهناك من حيرته، وحيرت جميع الشعراء:( الحيرة) (ص:35) أذاً هو يتكلم عن نفسه شاعراً، فبماذا حيرته؟
أنتِ ما حيرتني وحدي أنا
أنت حيرت جميع الشعراء |
ومزق ورقة تحمل شعراً أو نثراً، ولغضيه يحكم بأن هذه القصاصات الممزقة أثمن من فتنتها الفانية:
رسالة ممزقة (ص:36)
تلك القصاصات التي مزقت
أثمن من فتنتك الفانية |
وتأتي ثقته مهتزة في حواء، فرغم أنه رأى في إحدى بنات حواء محبة إلا أن الشك يقفز إلى تساؤل عما إذا كان حباً حقيقياً، أو أنه نزوة، فالغيد متقلبات الأحوال، فلهن مواسم أهواء، وقد يكون الآن موسم الطيش، ووقت انصراف الهوى، وكل موسم في المعتاد يولي، والأحوال قُلّب:( مجرد سؤال) (ص:39):
أأحببتني؟ أم كان ما كان نزوة
وللغيد أحوال.. وللطيش موسم |
وتمر بذهنه خيانة ابنة حواء كما في (خيانة) (ص:43)، فيسجل عنها خيانة بعد أن تعهدت أن لا تخون، وفي هذا نوع من الهجوم، ولكنه سخط لن يدوم، وسوف يعود إلى عشق أخرى، ويتغنى بها، ليرسم لها رسما مختلفا، وهل أراد بصيغة السؤال أن يخفف التهمة التي جالت في ذهنه؟
أرسلتك السماء للأرض ظلا
من حنان.. أخنت عهد السماء |
ويحذر من الهوى، وهو يتكلم عن تجربة، أو ما يظنه تجربة! فيصف الهوى بأنه عالم مر.. وشكوى.. وقيود، ويوجه تحذيره لطفل في التجربة، وليس في السن:( تحذير) (ص:45) ما هذا إلا حكم على المرأة:
أيها الطفل تنبه! فالهوى
عالم مر.. وشكوى.. وقيود |
وأستاذنا الكبير إبراهيم فطاني - رحمه الله - يقول:
إن الهوى ألم به
يتلذذ القلب الطعين |
وهكذا تأتي الأبيات عن المرأة، فيها معاناة، أو اضطراب، أو عتب، أو تحذير، وإن مصدر جمالها شعره، وهناك الحب الشقي، والهوى الكسيح، والشوق الملفع بالذعر، والمرأة غيمة داخلها غيث أو رعود، والمرأة حروفه إذا نطق، وسكوته الطويل الكئيب.. وتلك ليست فجراً مضيئاً، وإنما هي أنثى مثل غيرها والعمق مظلم، والظاهر باسم، وهي مجرد قصة تنساب إلى النسيان.
ثم يرسم الصورة التي فازت بالوقفة الطويلة، لأن فيها فن الإتقان في رسم واضح مقنع في(غاية الشوق) (ص:48):
شوقي إليك.. كأنه
شوق السؤال إلى الجواب |
الإبداع في شوق السؤال إلى الجواب.
وقلبه يتسع لكل شقراء أو سمراء، وهو يغار على حبيبته، ولكنه يقسم إنه لا يغار، ثم يقسم إنه يغار، والكون يدري أنه يغار، يغار من مرور اسم غيره على شفتيها، ويود أن يفقأ عين من ينظر إليها بشواظ من نار، ويكفيه وهم من الحب يحلم به، ويزعم أنها أحلى النساء، ويعرف أن هذا زعم.
والآن، لنخرج من عالم المرأة الذي له النصيب الأوفى من الأبيات، إلى بعض لمحات تحار القدم عندها، فلا تتعداها بيسر:
في (رحلة) (ص: 63) يصف الحياة، ومعاناة المرء فيها، وانتقاله من هم إلى هم، ومن معضلة إلى أخرى، ومن ظمأ إلى قلق.
ثم تأتي القشرة الرقيقة اللامعة التي تغطى هذه الفكرة، فيقول: إنه لم يعد في الأرض حنان يعزي المعاني:
ما سرت من ظمأ إلا إلى قلقي
كأن كل حنان الأرض قد نضبا |
ويقف على منبر الفخر، وهو المفضل عند الشعراء، ويؤكد، بثقة، أن الشعراء هم الذين صنعوا الغرام، صنعوه ملحمة للسنين، وألبسوه أفخر أبياتهم، وبنوه من خفقات الحنين:( عن الشعراء9 (ص:46)، وكأني بقائل من غير الشعراء يقول: إنكم تقولون إدعاءً، ونحن في هذا نزيد عليكم، ولكن بدون ضجيج:
ونحن الذين صنعنا الغرام
صنعناه ملحمة للسنين
وهبناه أروع أبياتنا
وشدناه من خفقات الحنين |
شدتم بناءه، وغير الشعراء، سكنوا رحابه، يا مدعين! ولكن أقوالكم، وإن كانت خيالا، تبقى محفوظة في الصدور، ويحلو للألسن تردادها، لهذا تبقى على مر السنين.
ونقفز معه في تلك الأغراض إلى غرض آخر، يستحق الوقوف طويلا، لأن فيه مناجاة الابن لأبيه، ولمحة من العلاقة بينهما ففي (أبي) (ص:35) تطل صورة الأب يعلم ابنه، يتلو ذلك تساؤل: هل أخذ الابن بنصحية أبيه، وتحذيره؟
تعلمت منك صدام الخطوب
فكيف تراني جناحا كسيرا
وعلمتني أنت صبر الرجال
فمالى رجعت صبيا غريراً؟ |
هذه لمحات لا تزيد عن أن تكون تفكيراً صامتا في بعض أبيات غازي المختارة، استنطقت، وقد نطقت لي بما قد تنطبق بغيره لغيري مختلفا، فهي أحيانا فضفاضة، يدخل في ثوبها أكثر من قوام.
|