* الرياض - وهيب الوهيبي:
أكد سماحة المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ أن شهر رمضان المبارك فرصة عظمى للمسلم للاستكثار من الخيرات والتقلل من المعاصي وتفقد المحتاجين وتفطير الصوام والبعد عن الغيبة وبذاءة اللسان وتجديد التوبة والإنابة.
وقال سماحة المفتي العام ل(الجزيرة) بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك: إن من نعم الله سبحانه على عباده المؤمنين أن فرض عليهم صيام رمضان واختص هذه الأمة المحمدية فيه بمزيد من الفضل والإنعام وجعله موسماً من مواسم الخيرات لينالوا فيه أعظم الدرجات ويفوزوا بمضاعفة الحسنات والعتق من النيران.
شهر افترض الله علينا صيامه وكتبه كما كتب الصيام على من قبلنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وشرع رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - قيام ليله جماعة في المسجد ورتب على ذلك الأجر العظيم، يقول - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري وزاد النسائي (وما تأخر).
وأكد سماحته أن شهر رمضان هو شهر الصبر وثواب الصبر الجنة، شهر رمضان فيه ليلة خير من ألف شهر {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} من حرم خيرها فقد حرم.
شهر رمضان شهر تضاعف فيه الحسنات وتكفر السيئات، وفيه تفتح أبواب الرحمة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين. لله - عز وجل - في كل ليلة من هذا الشهر عتقاء من النار.
وأشار سماحته إلى أن هذا الشهر اهتم به المسلمون وشمر فيه الصالحون، كان السلف الصالح - رضوان الله عليهم - ينتظرونه وله يستعدون، ويدعون ربهم ستة أشهر أن يبلغهم إياه، فإذا أدركوه دعوا ربهم ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكانوا يقولون: الله سلمنا إلى رمضان وسلم رمضان لنا وتسلمه منا.
عرف قدره الصالحون فاستعدوا له وشمروا، وغفل عنه الكسالى اللاهون ففرطوا فيه، وضيعوا وخابوا، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (.. ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان فانسلخ قبل أن يغفر له) رواه الإمام أحمد.
ونحن في إقبالة هذا الشهر يجب علينا أن نتواصى بالحق وأن يذكر بعضنا بعضاً امتثالاً لأمر ربنا {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} واتصافاً بصفات أهل الحق والنجاة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
وأوضح سماحة المفتي أن أهم ما تجب العناية به والتذكير، وما يجب التناصح فيه والوصية أمر التوبة وتزكية النفوس؛ فإن هذا هو طريق الفلاح؛ يقول الله - عز وجل -: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
والتوبة واجبة على المسلم كل وقت وحين؛ يقول الله - عز وجل -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ويقول أيضا - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} الآية، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم) رواه مسلم، والله - سبحانه - يفرح بتوبة عبده فرحاً شديداً؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (... والله، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة) رواه مسلم.
والله سبحانه يتوب على عبده ما دام العبد ذاكراً ربه، عالماً أن له رباً يغفر الذنوب، وأنه كلما أذنب جدد التوبة ولم يصر على معصية ربه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن ربه - عز وجل - قال: (أذنب عبد ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: ربي اغفر لي؛ فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب؛ فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي؛ فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك) رواه مسلم. والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
المقصود أن علينا جميعاً تجديد التوبة ومعاهدة النفس على الالتزام بطاعة الله ورسوله، فإن زلت بنا القدم فلنبادر بالتوبة، والحذر من التسويف في التوبة والتأخر فيها؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ويقول - عز وجل -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}؛ فباب التوبة مفتوح ما لم يغرغر العبد أو تطلع الشمس من مغربها؛ فحينئذ لا تنفع التوبة ولا الندم، جعلنا الله وإياكم من التوابين الأوابين المقبولين.
هكذا يستقبل المسلم المنيب لربه شهر رمضان فرحاً بقدومه وعزيمة صادقة على اغتنام مواسمه بصالح العبادات ورجوعاً إلى الله بفعل أوامره وترك نواهيه وتوبة نصوحاً من سائر الذنوب والمعاصي، وسؤال الله أن يبلغه رمضان فإن بلوغه نعمة عظيمة ليفوز بالكرامة والأجر العظيم ومغفرة الذنوب. وعدّد سماحة المفتي فضائل شهر رمضان ومنها تزكية النفس وتهذيبها وتطهيرها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة كالبخل والشح والأشر والبطر والميل إلى الشهوات.
كما أنه يعوّدها ويروّضها على الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة كالصبر والتحمل ومجاهدة النفس وضبطها والنظام والرغبة في الجود والكرم والإحسان إلى الفقراء؛ فإذا أحس الصائم بالجوع شكر الله سبحانه على نعمته وعرف قدر نعمته عليه وعرف ضعفه وحاجته لله سبحانه وأن من وهبها له قادر على أن يسلبها منه؛ ولذلك يحسن إلى إخوانه الفقراء الذين لا يجدون ما يسدّ رمقهم طوال السنة.
وأضاف قائلاً: في الصيام تنقية للبدن من الأخلاط الرديئة؛ فهو ينظف الأمعاء والمعدة من سموم الأطعمة والأشربة ويطهرها من فضلات الأغذية المسببة للسمنة والأمراض؛ فهو صحة للبدن؛ ولذلك عالج الأطباء به كثيراً من الأمراض، كما أن الصيام سبب لمضاعفة الحسنات ووسيلة من وسائل التقوى وسبب لنيلها؛ فالصوم يضيق مسالك الشيطان التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم؛ فبالصيام تنكسر سورة الشيطان وسورة الشهوة؛ فكلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي وقوى سلطان الإيمان وقوي الجانب الروحي فقوي الصائم على العبادة وازداد قرباً من الله؛ فالصوم جنة ووجاء، وسبب للتقوى؛ ولذلك أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب إلى الصيام لمن لم يستطع النكاح؛ فقال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
وأبان سماحته أن الصيام سبب لسعادة المرء في دنياه وأخراه؛ فالصائم يفرح عند فطره بتناول ما أحل الله له من الطيبات بعد أن أعانه الله على إكمال صيام يومه، ويفرح بصيامه عند لقاء ربه بما أعده له من الأجر العظيم والثواب الجزيل؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه).
صيام رمضان كفارة لما بينه وبين رمضان الآخر من صغائر الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وسبب لمغفرة الذنوب، ويدل على ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) أخرجه الإمام مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة حتى يدخله الجنة قال - صلى الله عليه وسلم -: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصيام: أي رب منعته من الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه...) إلى قوله: (... فيشفعان) أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الصيام جنة وحصن حصين من النار) رواه أحمد والبيهقي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم..) الحديث متفق عليه.
وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم عند فطره دعوة لا ترد؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا ترد دعوتهم؛ الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم) الحديث أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
صيام هذا الشهر الكريم هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقول الله - عز وجل -: {.. فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (.. يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
وقال سماحة المفتي: واجب على المسلم أن يسأل عن صيامه، وإذا أراد الإقدام على أمر ولم يعلم هل يفطر أم لا؟ وهل يجرح صومه أم لا؟ وجب عليه السؤال قبل الإقدام عليه؛ حتى يكون عابداً لربه على بصيرة، وحتى يسلم له صومه.
وشدد آل الشيخ على أن مما ينبغي تركه في هذا الشهر بل ويتأكد البعد عنه في هذا الزمن الفاضل، الغيبة والنميمة والكذب وبذاءة اللسان والسباب والشتم، فإن ساب الصائم أحد أو قاتله فليقل (إني صائم) هذا هو توجيه نبيكم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
إن في الصيام فرصة لك عظمى لطاعة ربك والاستكثار من الخيرات، والتقلل من المعاصي والتدرب على الخير، وتفقد المحاويج، وتفطير الصوام، وبذل الخير في كل باب.
في الصيام يحصل للجسد والنفس الراحة والانشراح بتخلصها من فضلات الطعام وتخليها لعبادة رب العباد.
احرص على سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وتتبعها. ومن السنن في هذا الشهر السحور وتأخيره وتعجيل الفطر؛ (تسحروا فإن في السحور بركة)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) رواه الشيخان وعند أحمد بزيادة (وأخروا السحور).
اغتنم هذا الشهر العظيم، الشهر الذي أخبر رسولك محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - عنه؛ فقال: قال الله تعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) متفق عليه. ولمسلم (كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)؛ قال الله تعالى (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي).
وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيام لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد) رواه البخاري.
اللهم اجعلنا ممن سعد بإدراك هذا الشهر وفاز فيه بعظيم الأجر، وكان من عتقائك فيه من النار، اللهم كما بلغتنا إياه فاجعل لنا فيه أوفر الحظ والنصيب وأعنا على إتمامه على الوجه الذين يرضيك عنا.
|