حينما اقتربت أعياد الميلاد وقبيلها! عشية الحرب الأمريكية البريطانية! (المشتركة) على العراق! أشاعت حكومة توني بلير (البريطانية) وأظهرت القلق ومظاهر التوتر ومحاذير الخوف مع شحن الناس بتوجسات ظهور هجمات إرهابية تستهدف الكثير من المنشآت والأهداف ضد الإمبراطورية العجوز.. وأعلنت الاستنفار الأمني وتأهب البوليس وفرق الجيش لمواجهة الخطر الداهم! وتتالت صيحات (توني بلير) وتحذيراته من ذلك الخطر الوشيك المزعوم؟!.. غاصت (الفرحة بالأعياد) في قلوب من اعتادوا على السهر والفرح وتنظيم الحفلات الباذخة في هذه المناسبة السنوية التي لها - عادة - من الشأن العظيم في تقاليدهم وأعرافهم ما يفوق خيال من لا يدرك سيطرتها وتغلغلها وسطوتها على المجتمعات والأسر في مشارق الأرض ومغاربها والاستعدادات غير العادية والترتيبات الاستثنائية.. والتجهيزات التي لا تخطر على البال! تُكرَّس الإجازات والفسح وتعطَّل المصالح لتتاح الفرصة (الذهبية) لكل فرد ولكل أسرة.. قلّما تجتمع طوال العام ولا تلتقي إلا في هذه المناسبة التي لا تتكرر إلا في العام الواحد.
لكن توني بلير أجهضها وأفرغ القلوب من الفرح بينما ملأ الرؤوس بالكوابيس والهلع والترقب والتوجس والخيفة! بينما - هي - لا تعدو أن تكون ظل وظلال الحلم المكسور!!
نعم فقد - انكسر حلم توني بلير - وخابت آماله بحدوث تلك الأعمال الإرهابية! وصحا على الحقيقة الأكثر رعباً. إذ لم تحدث عمليات تفجير إرهابية لتغطي وتفرز مبررات الحرب على العراق! حدث لم ينجح في تسويق تلك الحرب وتسويغها! أفلست أعذاره وأوهامه! أفلس من كل حجة وعذر! حدثت الحرب وانعدمت مبرراتها!! وكانت فضيحة دبلوماسية وعسكرية وإنسانية مدمرة على مرّ الأجيال وسمعة وكيان الحكومتين (الأمريكية والبريطانية)، تلك كانت مقولة توني بلير التي كبُرت وطال مداها لتعري الواقع - لبلير وبوش - وعملية الحرب الخرقاء!
***
والجماهير البريطانية وعت الواقع المرَّ وصُدِمت بمغالطات بلير - التي كشفتها إذاعة ال(بي بي سي) ونتج عنها مقتل العالم البريطاني (ديفيد كيلي)، ليس بلير (وحده) من يستغل الإرهاب ويستدرجه لتحقيق أمانيه في شن الحروب ودعم الصلف الأمريكي نحو نفط العراق وفرض النفوذ الصهيوني! بإضعاف أقوى دولتين مجاورتين لإسرائيل إيران وسوريا عبر العراق وبعده! بذريعة كاذبة (أسلحة الدمار الشامل) فها هي (كونداليزا) رايس بعد أن ظهر لها موقف بوش بالانتخابات تلوح بالأعمال الإرهابية!
***
معلومات بلير غير الصحيحة وإن كانت - للحقيقة - قليلة! فإنها (لكبيرة) مدمرة استنزفت الأذهان البريطانية! شُغلت بأحداث عدوان استباح دولة العراق! ويهدد جوارها وفوق ذلك زادت البطالة - هناك - وقصر الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والضمانات الطبية وتعويضات نهاية الخدمة.. في دولة مثل بريطانيا لا هزل فيها ولا مجال - لهزل وهزال - من يحكمها؟
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان.. هذه هي نقائض التاريخ فلم تشهد - بريطانيا - وضعاً كحالها اليوم.. باستثناء فترة حكم (توني ايدن) السياسي الذي ورط بريطانيا في حرب مماثلة بما يعرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م. كانت نقطة سوداء في سجل الامبراطورية التاريخي كانت - الخطوة القاتلة الأخيرة - نحو القضاء على ما تبقى لها من مستعمرات! وليس فقط فشل ذلك العدوان على الأمة العربية!
لكن التآلف والتجانس بين الاثنين كبير جداً. فبينما ظل (توني إيدن) إلى آخر يوم في حياته يؤكد قناعته بصحة مبررات ما اقترفه! لم يتراجع أو يتأسف أو يشكك.. كما هو بلير يصر - اليوم وكل يوم - على وجاهة عدوانه المشترك على العراق وضلوعه مع المؤسسة الحاكمة في البيت الأبيض الأمريكي! نحو إضعاف وإنهاك كل الأمة الإسلامية والعربية وابتزاز ثرواتها لصالح العدو الصهيوني في فلسطين! حتى لقد أصبح الدموي الإرهابي (شارون) رجل السلام في نظر بوش!
وفي حين ليس هناك - كما يلوح - من يوقف توني بلير..! فهو ضالع مع أمريكا.. بينما في ذلك الزمان حينما كانت أمريكا زمن (ايزنهاور) أوقفت عدوان (ايدن)! وحملته على الانسحاب من منطقة القناة المصرية! بجانب عوامل أخرى كبيرة تشير إلى هزيمة العدوان وفشله على مصر..!
كانت أمريكا رغم تهور وزير الخارجية (جون فوستر دالاس) والذي عرف بسياسة حافة الهاوية! أكثر واقعية وفهماً للعالم العربي والتوازنات التي تحكم الخطوات وتُلجم الانفعالات.
***
وفي هذا الصدد (شن (جريج دايك) المدير العام السابق لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) هجوماً عنيفاً على (داونينج ستريت) بشأن الحرب على العراق وتعامل الحكومة البريطانية مع ال (بي بي سي) متهماً رئيس الوزراء (توني بلير) بعدم الكفاءة وإعطاء معلومات غير صحيحة ل(مجلس العموم البريطاني) بشأن الحرب على العراق - وأسلحة الدمار الشامل).
تزامنت تصريحات (دايك) التي نُشرت في صحيفة (ميل أون صنداي) مع نشر مذكراته ذكر فيها أن رئيس الوزراء حاول ممارسة ضغوط من موقع قوة على مؤسسة ال(بي بي سي).
وهاجم (دايك) بلير شخصياً في كتابه الذي سيُنشر أيضاً على حلقات مسلسلة في كل من صحيفتي (الأوبزرفر وميل أون صنداي)، يقول (دايك): لقد تعرضنا جميعاً للخداع وما يُخيف فعلاً هو أن بلير لن يصدق أو يتفهم بعد: أن ما فعله كان خطأً من الأساس!
من جانبه حمل أسقف (اكنتربري) الدكتور (راون ويليامز) وأسقف يورك (ديفيد هوب) على بلير واتهماه بأنه تسبب بتراجع سمعة بريطانيا كشريك نزيه في السلام في الشرق الأوسط! وقالا -في رسالة لهما- إن بلير استخدم المعايير المزدوجة في موقفه من حرب العراق، وانتقدا سياسته بشدة باسم (كنائس بريطانيا) كلها! واعتبرا أن إساءة معاملة السجناء العراقيين أضرت بشدة بمصداقية الحكومات الغربية وسلطتها الأخلاقية.
***
وطبيعي أن حرباً - كهذه - لن تكون لها نتائج حاسمة بربح إذ الخسارة أقرب إلى المنطق وإلى واقع الحال! خاصة مع كثرة الضحايا من قوى الاحتلال البريطانية والأمريكية! رصاص عشوائي منهما ضد بعضهما ضمن ما أُطلق عليه مؤخراً مصطلح - (نيران صديقة Friendly fire) التي تعني النار التي تصيبك من حلفائك ورفاقك - الذي شاع في العالم مؤخراً وكان موضع هزء وسخرية ونكات عبر الصحف والمواقع الإعلامية الأخرى (الإنترنت).كما هي (الحرب) ذاتها أذهلت الجمهور والمراقبين من جهة انعدام مبررات عقلية لها! رفضها العالم أجمع! قامت مظاهرات حاشدة ضد الحرب وتعالت صيحات وصرخات تحمل شعارات بينها (لا للنفط الذي يُسال من أجله الدم)!.
***
ولم تنجح قوة العدوان إلا بحراسة آبار النفط العراقي- الهدف المشترك، وحتى التجنيد بجبهات القتال كان صدمة لأهل الجنود في بريطانيا وأمريكا بقدر ما هي صدمة للجنود ذاتهم من ناحية عدم التدريب وعدم الإيمان بالهدف! أنهم يذهبون للقتال في بلد لا يعرفون من أجل ماذا! يقاتلون؟
حتى صرخت الشابة البريطانية (مكسيم جنتل) -14 سنة - في رسالة لتوني بلير! بعد مقتل أخيها (جندي في العراق).
صرخت تُشير وتستغرب وترفض وتُدهش للعسف والخفة والتسرع في تجنيد الشباب وإرسالهم إلى ميادين قتال غير مشروعة تقول: (إنه لشيء عجيب أن السمكري يحتاج إلى أربع سنوات من التدريب قبل أن يسمح له بتصليح الأنابيب، ولكن المرء لا يحتاج لأكثر من ستة أشهر تدريب ليعتبروه جندياً محترفاً)*.
***
إن أية حكومة تستهين بأرواح الناس فتدك عليهم ديارهم وبيوتهم في العراق مباشرة! أو في فلسطين بيد شارون! فإن الأذى لا بد أن يلحق بمواطنيها أيضاً بكل الصور المتاحة وغير المتاحة والمعقول منها وغير المعقول! فنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأكبر ل(توني بلير) فعلت بمواطنيه البريطانيين بما لا يخطر على بال فقد أطلقت سراح خمسة بريطانيين من معسكرها في قاعدة (جوانتانامو) ضمن سياستها أن تطلق سراح مواطني الدول المتحالفة معها مثل بريطانيا وأسبانيا وغيرهما.
ولقد نشرت جريدة الاتحاد الإماراتية إشارة للأخ (منصف أبو بكر- أبوظبي) تُجسد تلك المعاني فيقول: (ولقد حدثت مفاجآت بالنسبة للسجناء البريطانيين الخمسة لأن القضاء لم يستجوب سوى واحد منهم وأطلق سراحه بعد ساعات أما الأربعة الباقون فقد أطلق سراحهم في الحال، وقال القضاء إنهم لن يقدموا للمحاكمة!
وهذا دليل ناصع (مُثير) نزيه معناه الواضح أن هؤلاء السجناء ظلوا في المعتقل لمدة سنتين دون وجه حق؟ وقد صرح أحدهم بأنه واجه الأهوال وعانى من سوء المعاملة على يد الجنود الأميركيين. وما كاد أحدهم يطلق هذه الجملة القصيرة، حتى تسارعت إليهم الصحافة وأجهزة الإعلام لنشر معاناتهم في سلسلة مقالات أو في (كتاب) يكون شهادة للتاريخ ودليلاً على أن معظم الـ 626 سجيناً أبرياء، لأنه لم يسمح لذويهم أو وكلائهم بمقابلتهم أو تقديمهم لمحاكمة نزيهة.
وقد رفع من أُطلق سراحهم دعاوى مطالبين بالتعويض الذي يُشك أنهم سيحصلون عليه! ولكنهم على كل حال سيقبضون مبالغ كبيرة في الحال (ثمناً) لذكرياتهم ومعاناتهم.
وأخيراً يقول وزير الخارجية البريطاني (روبن كوك): (لقد عثروا على مواد سامة خطرة في مياه الدساني المعدنية لشركة كوكاكولا أكثر مما وجدوا في العراق كله) (الشرق الأوسط - الجمعة 3-9-2004 العدد 9411).
|