|
انت في
|
تلاحق الشاعر هواجس الحزن في أشتات من معاناته الشعرية تعبر عنها قصائده، وتشير إليها عناوين تلك القصائد، حتى العناوين غير المباشرة أو التي ترمز إلى معاناة الحزن أو تلمح إليه مثل (مرآة الخريف، سراب وظمأ، الأمس الضائع، نزيف ونحيب، الريحانة الذابلة، الربع الكئيب، مرارة، ضياع، زفرات، مأساة الحياة، المقبرة الحانية، دخان الحريق، قلوب كسيرة، وداع، أقسى من الردى، عقوق).. ولكن الشاعر محمد حسن فقي يحاول بالشعر أيضاً أن يخفف من هواجس معاناة الحزن على نفسه، أو يهرب من سيطرة هذه المعاناة ومحاصرتها واستحواذها فيقول مبرراً في قصيدة بعنوان (نعمة الحزن):-
وتفصح تساؤلات الشاعر عن تشبث الحزن به برغم محاولته الهروب منه فيقول:
- وحين نتأمل في قصائد الشاعر نلحظ وشاح الحزن والتشاؤم مستحوذاً حتى على العناوين، فنقرأ عناوين متشحةً بذلك الوشاح أو متدثرة به مثل:(جدار الظلام، مجاهل الطريق، أشباح، همس الليل، وغربت الشمس، النجم الآفل، الظلام، من وراء الغيوم). ويغرس الشاعر تساؤلاته الحائرة في قصيدته بعنوان (جدار الظلام) التي (يرمز فيها إلى جدار الظلام المطبق على العالم العربي والإسلامي، فهو كسماء داجية، وربما أن هذه القصيدة سبقت حرب الأيام الستة عام 1967م بقليل، لأن الديوان طبع في عام 1967م فهو يتشرف الأصداء لهذا الظلام قبل وقوعه، وقد تجلت له في ظلمات مخيفة بعد الهزيمة)(20). يقول في هذه القصيدة التي نظمت على شكل سباعيات:- من حياتي الأخرى رجعت إلى الأرض، فألفيت كل شيء غريبا ألا اني رجعت من عالم الطهر.. أرى عالم الفجور كئيباً أترى لو خلدت في هذه الدنيا.. لأصبحت بالتقى مستريبا ما الذي أشتكيه من عالم العهر.. إذا نلت من جداه الحبيبا وأرى في الهدى الضلال، فقد عاد ضلالي بما يضيء مصيبا لست أخشى من الخطايا - وما الخشية منها - ولست منها حريبا ما تخاف النفوس إلا من الهول، فلا إثم حيث لا تثريبا (21) إلى أن يقول في السباعية السادسة معبراً عن الظلام: يا سمائي: هذا الدجى يغمر الأرض.. فأين الكواكب الوضاءه اللواتي يرى بها السائر المدلج في الليل سحره ورُواءه ويرى ببعدها ذكاءً، وقد لاحت، فأجلت عن الوجود مساءه أينها؟ أطبق الظلام ودربي ما أرى من ظلامه لألاءه هو درب أنكرت منه الدياجير، وأنكرت أرضه وسماءه خفت أهواله، وقد لفني الصمت.. كما خفت بعدها أصداءه أي سار هذا الذي ألف الليل على رغمه وجافى ضياءه وتتوالى تساؤلاته حتى نهاية سباعيته السابعة مما يعبر عن فلسفة الشاعر في هذا الاختيار وقد نشرها في ديوانه (قدر ورجل)(22). قبل نشره في (الأعمال الكاملة): أي سار هذا الذي ضل، فاستهدى، فلم يهده الظلام المخيف يتهادى به، وقد قيد الليل خطاه.. فهو العمي الرسيف غيهب حالك، وقد يصدم السائرَ في تيهه - الجدار الكثيف لست أشكو من الضياع.. فقد ضعت، وما يشتكي الضياع الضعيف أنا هذا الأسيف.. قد سار في الدرب مخيفاً.. فريع منه الأسيف كان لي تالد يتوق، فأرداه من الهون ما اتقاه الطريف رب غي يهدي الأثيم إلى المجد.. ورشد يضل منه الشريف(23). وإذا كان التعبير بالظلام في هذه القصيدة عن حيرة الإنسان المحاصر بالتساؤلات عن مصيره ومستقبله، فإننا نراه يلجأ إلى الرمز أيضاً في التعبير عن صور أخرى من الحيرة المتراكمة مثل تراكمات الظلام الكثيف في ليل مدلهم كأنما هو جدار يحجب عنها رؤية الضياء والأمل، ذلك ما توحي به قصيدة (الساري والليل) التي يتراكم فيها الليل الكثيف، ذلك الذي (يرمز به لما يعترض المفكر وأمثاله من عراقيل وعقابيل، أو أن الليل هو الفكر ذاته فيجلو ظلامه المفكر في رحلته العلمية، وجهاده بقلمه ليبلور معالم الخير في عالم الفكر الذي هو أحوج ما يكون إلى كشف وإيضاح)(24). سرنا، وكان النور يظهر تارةً، ويغيب أخرى في الليل - والظلماء تحسبها - إذا حملقت - جدْرا والسادرون من الكلال، من الأسى يبكون ذعرا هربوا من الحدث المرير، فصارعوا الحدث الأمرَّا فزعوا من الليل البهيم إلى النهار.. فكان ضرا وأنا الذي وحدي شقيت بهم، وهذا الليل أدرى سخطوا علي، ففارقوا وعري.. فرحت أجوب وعرا ومضى النهار بهم.. يخبّ.. كأنه قد عب خمرا وبقيت أخبط ما أرى في هذه الظلماء فجرا لكأنها قبر!! ولكني أحس بهوله، وبما أسرّا أسري به، وأجر رجلي من عناء السير جرا فتخيفني الغيلان.. لكني أعود لهن قسرا (25) وتعصف الحيرة بالشاعر فيوالي طرح تساؤلاته التي جاءت في قصيدة (سمادير ظلماء) موجهة إلى (ليلى) الشاعر التي يخاطبها مجنونها في افتتاحية القصيدة بقوله:
ويعود في آخر قصيدته، إلى نفسه الحائرة متسائلاً ومعبراً عن معاناته: يا نفس كيف ظمئت؟ كيف جُبلت؟ من أي العناصر؟ أنا كالأرانب - تارة - خوفاً، وأخرى كالكواسر هذه النقائض أوقفتني بين أشتات المعابر فاحترت ما بين المرابح غامضات، والخسائر كيف السبيل إلى هداي لأطرق الدرب المياسر لا الدرب يفضي بالسُّرى - بعد اللغوب - إلى الحظائر قولي.. فقد دارت عليَّ بهول ما ألقى الدوائر فلعلني إن قلتِ.. ميزت الظلال من الهواجر أو فاصمتي.. فلربما قوّيت بالصمت الأواصر أنا لا أزال إن اختلطت أو اعتزلت، أنا المحاذر!! من هذه النماذج الشعرية للشاعر محمد بن حسن الفقي برزت صور الحزن والتشاؤم والحيرة فما هي مبرراتها؟ أما الحزن فإن فقد الشاعر لثلاثة من ابنائه لابد أن يترك اثراً بالغاً في نفسه وهواجسه: ابنه عبدالعزيز وابنه محمد واحدى بناته والذين أحدثت وفاتهم جرحاً عميقاً في كيانه انعكس على مشاعره، بالإضافة الى فقده نماذج من أعز اصدقائه في الحياة. والمبرر الآخر يعبر عنه الشاعر محمد حسن فقي بقوله:( الحياة حلوها قليل، ومرها كثير، وإذا نظرت اليوم في الصحف تجد أن 90% من أخبارها محزن والباقي القليل هو الذي يسر فقط، وأنا لست سوى حمامة بين آلاف الحمائم المذبوحة من الخليج إلى المحيط، وأجمل قصائدي كتبتها وأنا أنزف حزناً وألماً، فأنا بطبيعتي شاعر شفاف وأتأثراً تأثراً بالغاً بأي موقف حزين أو أي مصيبة تحل بالناس، ولهذا يلقبني البعض بالشاعر الحزين، وأنا لا أتعمد ذلك وانما تلك فطرة فطرني الله عليها، فأنا أتأثر بآلام اهلي ومجتمعي وأمتي والإنسانية جميعها، وأكره الاضطهاد والظلم مهما كان حجمه، ولا أحمل في صدري حقداً لأحد ولو كان عدوي)(26) ومعظم الذين تناولوا تجربة الشاعر محمد حسن فقي ألمحوا الى نزعة التشاؤم في شعره الممتزجة بالتأمل والقلق كما عبر ذلك أحد النقاد حين قال في نطاق الحديث عن قصيدة (الساري والليل) التي أوردنا مقطعين منها: ( ولقد اتخذ فقي الشعر أداة للتعبير عن مشاعره المرهفة ووجدانه المعذب، فقد امتزجت في قصائده الفكرة التأملية المتشائمة بالروح الإنسانية القلقة، فأتى شعره بعثاً لفن الشاعر العربي المتأمل، أبي العلاء المعري، وإسهاماً في ذلك النوع من الأدب الإنساني المعاصر الذي يتأمل في مصير الإنسان، في مشاعر كثيرة من القلق اصطبغ بنغمة التشاؤم، ولكن هذا النغم الحزين الذي استمرأه الشاعر محمد حسن فقي قد جعل شعره أحياناً يقع في الانفعال العاطفي والتكرار المعنوي، واذا تأثرت الروح التأملية الحزينة بأكثر ما نظمه محمد حسن فقي فقد ظلت هموم الإنسانية متجددةً لا تنضب، وأصيب بالقلق إزاء الواقع البشري الأليم، وأخذت نفسه تغرق في أشواقها الصوفية وحنينها إلى المثل الأعلى.. مما نرى مصداقية قصيدة (الساري والليل)(27) ومثل ما عبر الشاعر نفسه عن مبرر الرمزية وقسوة المعاناة في شعره نقرؤه يعبر عن ذلك شعراً في قصيدة بعنوان مباشر هو (الرمز السرمدي) يقول في المقطع الأول منها:-
ونتساءل أمام هذه الشخصية الآنفة العزيزة ماذا تطمح إليه في هذه الحياة الدنيا؟ فيجيبنا الشاعر محمد الفقي في القصيدة نفسها بأسلوب مباشر برغم العنوان الرمزي وما تخللت القصيدة من رموز يسهل تفسيرها على القارئ المتأمل لشعره:- أنا أهوى مجداً كريم المعاني لست أهوى مجداً شهي المجاني فيه للروح والمشاعر والفكر غذاء من طيبة، وحنان إن دنياه لا تعاني من الحقد، ولا تشتكي تطاول جان في نقاء تعيش، يرضى به الحس، وترضي نوازع الوجدان وأمان من المخاوف ما أشقى حياة الورى بغير الأمان شد ما رفت بمغانيه، وجاشت سخيةً بالمعاني وتراءى الإلهام للملهم الساهم في رقة وفي عنفوان كالبراكين تارةً، وندى الفجر رؤاه الزهر في الأغصان هو مجدي هذا وما أنذر المجد ثقيلاً في كفة الميزان (28) رباعيات الفقي - لابد في قراءة تجربة الشاعر محمد حسن الفقي من الوقوف عند رباعياته التي امتاز بها وعرف عنه اخلاصه واتصاله مع القارئ عبر تجلياتها واستمرارها المتدفق عبر سنوات متتابعة تفاوت فيها مستوى الصياغة والابداع متردداً بين الاضاءة الى العادية العابرة.. ولعلنا نتساءل ببراءة عن هذا الإصرار على التوجه أو الالتزام بكتابة الرباعيات. وقد تساءل الكثيرون عن سبب تعلق الشاعر محمد حسن فقي بكتابة الرباعيات التي ربما تشغله عن نسج قصائده المطولة الأخرى التي يواصل كتابتها يومياًً متصلاً مع القارئ؟ وبكل عفوية وصراحة يجيب شاعرنا الفقي على هذا التساؤل بقوله:- ( أنا أرى أن الرباعيات وجبة خفيفة مضغوطة من الشعر، وهي نتيجة انفعال فكري أو حسي لما يدور حولك، وهي إشراقة من الإشراقات النفسية أو الفكرية، قابلة للتداول وتحفظ بسرعة، فكثيراً ما أنسى بعض ما قلته من هذا الشعر وأجد غيري يحفظه)(29) وعندما نسترسل في قراءة رباعيات شاعرنا محمد حسن فقي نلحظ مصداقية البوح الذي اختصره الشاعر بوصفه (وجبة خفيفة مضغوطة من الشعر) معبرةً تعبيراً واقعياً عن حالة الشاعر ومعاناته، وقد عد الدكتور عثمان الصالح الصوينع رباعيات الفقي أفضل في التعبير الشعري من قصائده الطويلة حيث قال:( ومع أن الشاعر الفقي يمتاز بخصوبة الشاعرية وتدفقها الثر السخي ولا يباريه اليوم في غزارة الإنتاج أي شاعر آخر في المملكة إلا أن شاعريته تتبدى في رباعياته أكثر مما تتبدى في قصائده الطوال؛ ولذلك فإن الباحث يجد هذا الشاعر في الرباعيات أصفى وأوضح منه في المطولات)(30) وقد نشر الشاعر محمد حسن فقي رباعياته في عدد من الصحف على مدى سنوات من عمره، ونشرت في (المجلد الثاني) من أعماله الكاملة الصادرة عن الدار السعودية للنشر والتوزيع، وكان نشره دون ترتيب للموضوعات، ودون عناوين، وبرغم ذلك فكل رباعية قصيدة بذاتها يعبر بها الشاعر عن حالة معينة أو فلسفة أثيرة في هذه الحياة، نلمس أحياناً صدى المعري في نظرته التشاؤمية للحياة إذ يقول الفقي:-
وفي رباعية أخرى يقول:
ونقرؤه حول النهاية يدندن في وقفة رباعية أخرى بصورة مباشرة: حين ما أذكر النهاية يغشاني وجوم، ويعتريني سقام أنا فوق الثرى شقي فهل تحت الثرى يطيب المقام سخر الناس من كريم الأحاسيس وثنت بسخرها الأيام لم يبن لي السلام في هذه الأرض، فهل بعدها يبين السلام؟ وفي صياغة أخرى ربما تختلف الصورة ويتكرر المعنى حيث يقول:
وكثيراً ما نقرأ الشاعر محمد حسن فقي في رباعياته يعزف على وتر الثنائية المتناقضة في هذه الحياة الدنيا معبراً عن فلسفة محيرة ولكنها في الحقيقة واقعية عابرة.. فيقول - مثلاً - في ثنائية السعادة والشقاء: لحظة للغني في ساعة الموت تساوي شقاء كل فقير إنه يترك السراوة والنعمى، ويمضي إلى ظلام الحفير والفقير المحروم يمضي، وما يترك للموت غير عيش مرير قرب هذا المصير قد يُسعد المرء، ويشقيه قرب المصير ومعبراً عن صورتي الربح والخسارة في لمحة غير مباشرة يقول:
وما أجمل الثنائية المتناقضة في الحياة حين تتعمق في جذور المعاناة وتوغل في شفافيتها إذ يقول الفقي في رباعيته:-
وفي حضور العسر واليسر في الحياة الدنيا يرسم الشاعر الفقي تساؤلاته في هذه الصورة الجميلة المعبرة إذ يقول:
وبرغم ما تنطوي عليه الرباعيات من عقلانية تجنح بها عن الخيال الشعري إلا أنها تدنو إلى التأمل فينسى الشاعر لمحات الابتكار التي تجعل التساؤلات مفتوحة مثل جرح المعاناة والأماني التي يعبر عنها بقوله:
وفي لمحة شاعرية جميلة نرى الشاعر الفقي يعبر في احدى رباعياته عن الهوى بهذه الصورة المختلفة:- قيل: إن الهوى يضل.. وجربت فألفيته يضل ويهدي ربما كان في الخلائق والروح استسرا وراء ثغر، ونهد فأبى نالنا الحياة كروض ذي ثمار، وذي كمائم ورد فإذا لم يكن.. فما أفدح الخطب علينا به، وما أقسى التردي!! وفي صورة للهدى والهوى المترددين في وجدان الشاعر وفلسفة الحياة، يقول الفقي:-
*** التشاؤم والنسيج القصصي في شعر الفقي ظاهرة تتوزع في كثير من قصائد شاعرنا محمد الفقي وهي ظاهرة التشاؤم التي تثير الدهشة لدى من يعرف الشاعر الفقي ويعدها فلسفة للشاعر الذي أعلن منذ البداية أنه (فيلسوف) في كتاب صدر له مبكراً، وقد واجه الشاعر كثيراً من التساؤلات عن سمة التشاؤم في شعره هل هو انعكاس عن حقيقة واقعية نفسية يعيشها الشاعر أم طموح إلى تجليات أكثر وأكبر من الواقع الذي يعيش فيه أم ماذا؟ يعبر الشاعر محمد بن حسن فقي عن شيء من ذلك بقوله في إحدى رباعياته:-
ويمعن الشاعر الفقي في حيرة التشاؤم وهو بادي التأثر بالشاعر أبي العلاء المعري فيقول الفقي:
ونلحظ في استطراد قراءة شعر محمد حسن فقي لأزمة الثنائية له، وتكرار المعاني وتشابهها إلى حد بعيد، لكنه ينفلت من سيطرة الذاكرة أحياناً عندما تتجلى الشاعرية وتتخلص من استحواذ الصور التعبيرية السابقة على حالته التي يعبر عنها ونفسيته الحاضرة، فنجد هذه الصورة التعبيرية الجميلة في هذه الرباعية برغم تقليديتها:-
وتجتمع الثنائية والتساؤل متلازمين في قوله:
والشاعر الأستاذ حسين عرب أحد أصدقاء الفقي ورفقة دربه الذي كتب مقدمة الجزء الثامن من أعماله الشعرية يرد رداً عنيفاً على منتقدي الأسلوب التشاؤمي لدى الفقي ويبرر ذلك بقوله: ( وإذا كان كثير من الناس ينكرون على الشاعر تبرمه بالواقع المعايش مع أن مركزه الاجتماعي ووضعه المادي يختلف بعض الاختلاف عن تعبيراته الشعرية فإن ذلك مرده سوء الرؤية وقصر النظر بل وتبلد الإحساس، فلقد عبر المتنبي عن أهل زمانه في مثل هذه الحالات بقوله:
وقال:
أو قوله: كل ما لم يكن من السهل في الأنفس سهل فيها إذا هو كانا ومثل هذه المعاني الأبكار كثيرة في شعر الشعراء العظام الذين يفرقون بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، والذين يعيشون حياة شعوبهم وأممهم أكثر من حياتهم الخاصة (32) وفي موقف آخر يبرر الأستاذ حسين عرب تناول الشاعر محمد فقي وأسلوبه ببُعد آخر حيث يقول:( إن شاعرنا موهوب موهبةً يغبط عليها، ولكنه حساس إلى درجة تستدعي الاشفاق عليه من هذا الشعور الفوار الذي يتردد بين جوانحه دون أن يملك أن يحد منه أو يقلل من اندفاعاته، وهو يملك رؤية واضحة للمعاني، بل لما يسميه الجرجاني في معنى المعنى. أو إن شئت فقل (فلسفة المعنى).. استمع له وهو يقول من قصيدة بعنوان (بين المد والجزر): أنا يقظان.. والكرى يتحاماني فمالي إلى الكرى من سبيل وأرى الأهل والرفاق حولي نياماً بجنب نضو عليل لست أشكو سهدي في السهر إلا قطرات من العناء الطويل من شجون عرفتها وأنا الطفل، ولم يسمع الأنام عويلي إن كينونتي ترزح منها يبفيف من الضنى وثقيل وشكاتي بين الضلوع فما يعرف منها الأنام غير قليل لِمَ هذا؟ لأنني امقت الشكوى، وإن جرني اليها خليلي إلى أن يقول:
وهي قصيدة طويلة جداً - يقول حسين عرب اخترت بعض أبياتها ما يبين صورةً من المعاناة التي يعيش بها الشاعر ويفلسفها بما وسعته نفسه من صور ومعان ومفاهيم قد تختلف كثيراً عما يراه أو يعانيه غيره من الناس. (33) - ولما يلاحظ في شعر الفقي من تأثره بأبي العلاء المعري كما ألمح إلى ذلك عدد من الذين تناولوا شعره، وتأثره بشعراء آخرين مثل أبي فراس الحمداني وفؤاد الخطيب كما صرح بذلك صديقه الشاعر حسين عرب في مقدمته التي كتبها وأشرنا إليها، فإن النزعة التشاؤمية لديه لازمته في كثير من قصائده، ومنها تلك القصائد التي نسجت بأسلوب قصصي، ونقرأ من عناوينها ومطالعها ذلك الهاجس المتشائم في قصيدة:( قصة في رباعيات) التي بلغ عدد رباعياتها. (360) رباعية أي (1440) بيتاً.. يقول في مطلعها: قست نفسه، فهو لا يرحم وكان يذل الذي يخدم وقالت له زوجه ذات يومٍ، وكانت ترق ولا تظلم لما ضربت الصبي الضعيف إلى أن تقطر منه الدم فقال لها: لا تطيلي اللجاج.. فإني هنا السيد الضيغم وقد تناول الأسلوب القصصي في شعر الفقي الدكتور حسن بن فهد الهويمل فقال عنه: ( في شعر محمد حسن فقي تبدو نزعة قصصية وصفت بأنها (حلوة رائعة ترتفع بشعره إلى قمم الفن)(34) وقصيدته (جحيم النفس) من أدق الأمثلة على نزعته القصصية، وفيها يراوح الشاعر بين الحوار والحكاية والسرد، والرواية الوصفية. والقصيدة تدور حول المرأة والحب الماكر، وقد حاول الشاعر فيها تفجير الشعور النرجسي بالعظمة مما جعله محور الصراع في هذا العمل، والشاعر يصعد هذا الإحساس في كثير من أعماله، ولا شك أنه استفاد من اسلوب المعري في رسالته، والزهاوي في ثورته، وترسم خطاهما في مقتضيات العقيدة السليمة فلا يعصف به الشكل ولا يجرفه الاستخفاف بالحقائق كما حصل منهما، ورحلته تلك لا تتجاوز جحيم النفس وعذاب الضمير:-
ويتابع الدكتور حسن الهويمل حديثه عن قصيدة أخرى للفقي من القصص الشعري فيقول:( وفي قصيدة (الشهوة والندم) يتحاشى المباشرة بتعامله مع الدلالة الهامشية وجنوحه إلى تنمية الموضوع عن طريق القصص الشعري يمكنه من السيطرة على الوحدتين العضوية والموضوعية بالإضافة إلى وحدة الشعور:
ويبدع في تنمية الصراع بين الشهوة والندم مستعيناً بقدرته التشخيصية محاولاً الوصول إلى تقرير القيم والمثل بما يحدثه من استجابة شعورية عند المتلقي، وهذا بعض ما يطلب من الشاعر المسلم)(35)وقد لحظت أسلوباً شكلياً آخر اتجه اليه الشاعر محمد حسن فقي في قصيدته هذه بعنوان( الشهوة والندم) وهو تجاوز الرباعية إلى الخماسية حيث وزع ابياتها الى خماسية يختلف الروي بعد كل خمسة أبيات مع توافق الوزن ووحدته في القصيدة كلها، نقرؤه في الافتتاحية وما بعدها لنتناغم مع أسلوبه القصصي:
وعلى خلاف ما اعتاده القارئ لشعر الأستاذ محمد حسن فقي من القصائد النظمية التقليدية نقرؤه في قصائد يسيرة يتجاوز الشكل التقليدي للقصيدة إلى شعر التفعيلة، ولكنه برغم ترنّمه وقفزاته الإيقاعية يظل مأخوذاً بالتشاؤم ورؤى الوحشة والشقاء كما يلحظ من قصيدته بعنوان (ترانيم)(37) التي يقول فيها مسكوناً بهم الشقاء وقصة المعاناة الملتصقة به:- يا حبيبي: أنت يا أجمل من كل حبيب. أي حسن في الورى مثلك يحلو ويطيب لمرادي؟ فهو حسن ظل يطويني فأفديه شباباً ومشيبا بفؤادي.. يا حبيبي أنت يا أكرم معنى في حياتي ما تدانيك معانيها، وإن دانت، فما ذلك عندي أنت وجدي. وهل الدنيا، وما فيها، ومن فيها كوجدي؟ يا حبيبي: أنت يا ملهم تفكيري وحسي، ما الذي يبقى إذا أنت توليت؟ سيبقى لي الخواء، وسأعمى عن رؤى الحق، رؤى الحسن ويطويني الشقاء (38) وما تنطوي عليه نفس شاعرنا من طموح وتوتر متصلين انعكس على صياغته الشعرية وأسلوبه في تناول الفكر إذ يلحظ القارئ المتأمل لشعره ذلك الاسترسال في التعبير الذي كثيراً ما يتجاوز التجربة التي يختصرها في الأبيات الأولى من القصيدة ثم تتشتت الأفكار وتسرح الرؤى في فضاءات أخرى قد يكون السبب الأول هو الكثرة في تدفق الكتابة الشعرية كما ألمح إلى ذلك رفيق دربه الأستاذ محمد علي مغربي حيث يقول عن المعاناة الشعرية للفقي:- ( ومن تجربتي الشعرية أستطيع أن أقول: إن هذه الكثرة أرهقت الشاعر أيما ارهاق، فهو دائم التوتر، يعاني هذا الوهج الذي يجتاح ذهن الشاعر وأحاسيسه ليصوغ هذه التعابير الشعرية المضمخة بذوب الوجدان، وخفقات الفؤاد، والشعر - مهما أسلس قيادة للشاعر - فهو معاناة مرهقة تجعل الشاعر متحفز الذهن، يقظ الإحساس، وهذه الحالة من التوتر تكفي لان تذود النوم عن عينيه، وتجعله في شبه يقظة دائمة، حتى ولو أخلد إلى فراشه، وأغفى فإن الذهن يعمل عمله حتى في المنام، هذه تجربة مررت بها منذ شبابي فلما كبرت سني تحاشيت الشعر إشفاقاً على نفسي وصحتي، أما صديقنا الأستاذ محمد حسن فقي - وهو في منتصف العقد الثامن من العمر - فلا يزال ينظم القصائد الطوال رائعة بعد رائعة) (39). ويضيف الشاعر الأستاذ محمد مغربي مأخوذاً بشخصية الصديق وعاطفة الأخوة بينهما مما ينأى به عن النقد المتجرد فيقول:-(محمد حسن فقي بهذه الكثرة ظاهرة عجيبة فريدة بين شعراء عصره، وهو - في رأيي - محكوم لهذه الظاهرة، لو أراد التفلت منها لما استطاع، وهو يعاني منها حتماً، ولكنه قد ألف المعاناة، بل أحبها ففرضها على نفسه، أو فرضتها موهبته الفذة، فكان لبلادنا هذا الشاعر العظيم) (40) ويلفت نظرنا الشاعر الدكتور عبدالله محمد باشراحيل إلى بُعد آخر في معاناة شاعرنا إلى اللغة الشعرية في صياغة الفقي ملمحاً إلى الأسلوب القصصي الرامز فيقول: (وعند قيامنا بالنظر والتأمل الفني في شعر الأستاذ محمد حسن فقي في مجموعته الكاملة الصادرة عام 1413هـ - 1992م نجد أن الشاعر يحتفي بلغته الشعرية وإبراز القيم الجمالية في القصيدة. وعناية الشاعر باللفظة تأتي ملائمة لموضعها ومعبرة بارتباطها بجزئيات العمل الفني لتكون القصيدة وحدةً متكاملة في بنائها الفني، والحقيقة ان قصائد الشاعر الفقي غنية بجماليات اللغة تتكون في إطار ابداعي ينم عن شعور مرهف واقتدار يمتلك ناصية الكلم معنى ومبنى، ولا يخلو من الأسلوب القصصي الرامز الذي يؤكد حقيقة الابداع لديه حتى وان تعددت القوافي فإن وحدة القصيدة وعمق المضمون يسيران جنباً إلى جنب في استنطاق المعنى ليكون محصلة عمل إبداعي رفيع وجهد عقلي مضن، ندلل على ذلك بقصيدته (العجز والقدرة) وقصيدة (ملائكة وشياطين) وغيرها) (41). واستكمالاً لمقولة الدكتور باشراحيل نقرأ أبياتاً من القصيدتين اللتين استدل بهما: يقول في قصيدة (العجز والقدرة):-
***
***
***
***
|
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |