عندما يكون التباين في وجهات النظر بين الرئيس والمرؤوس نابعاً من الحرص على المصلحة العامة فذلك أمر محمود، وفي وضع كهذا لا بد للمرؤوس أن يترك للرئيس مهمة اتخاذ القرار، كما أن عليه أن ينفذ ما يوكل إليه بكل أمانة وصدق، ولكن عندما يتخطى ذلك التباين حدود المصلحة إلى الصراع الشخصي، والمماحكة فإن الخاسر الأوحد هو مصلحة الوطن والمواطن. والمواطنون في حاجة ماسة إلى موظفين هيئ لهم مناخ نفسي وعملي يجعلهم قادرين على الإبداع حريصين على تذليل العقبات، وعندما يكون الرئيس حريصاً على الاستمتاع أكثر من الإبداع، والتراخي أكثر من التفاني، وعندما يسيء التدبير فيرى في كل خبير قدير منافساً له, ويسعى جاهداً إلى التقليل من شأنه والتهوين من أمره، دافعه في ذلك جهل عاش فيه أو حسد جبل عليه، فذلك داء لا يرجى برؤه، قال الإمام الشافعي:
كل العداوات قد ترجى مودتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد |
أليست تلك مقولة حق؟ فوربي لقد أنصف فيما قال: فإن العدو الحاسد لا يثوب عن معاداته إلا بزوال نعمة المحسود. فمبعث العداوة يكمن في بقاء النعمة وتمتع المحسود بها، فلا تلطف المحسود للحاسد يمنعه من مواصلة حسده، ولا انصرافه عنه راداً إياه عن إربه، فديدن الحاسد في الحياة كذلك، حتى وإن أسديت له من المعروف ما تعتقد أنه سيلجم فاه، فهو غير بالغ رضاه، وسيان إن فعل المحسود أو لم يفعل، فسيظل هدفاً يستلذ الحاسد برميه، وتظل غايته سقما لا يرجى برؤه، وإنه لحري بالإنسان أن يتبصر ليرى بأم عينه أن أولئك النفر موجودون على ظهر هذه البسيطة شربوا من ثقافات عالم وعاشوا كما عاش غيرهم، وعانوا وعانى الناس منهم. غير أن استمتاعهم يكمن في شقاء نظرائهم، وعناؤهم راجع لسعادة سواهم، ومما يعزي المرء السوي أن أولئك النفر قليل، وإن كان أثرهم غير يسير، وليس للمرء مخرج من عائلتهم، فما لغريمهم من صفات تميزه، ولا لصديقهم، خلال تمنعه، فكان الله في عون من ساقته الأقدار للتعامل معهم.
وداريت كل الناس لكن حاسدي
مجاراته عزت وعز فعالها
وكيف يداري المرء حاسد نعمة
إذا كان لا يرضيه إلا زوالها |
وأعتقد أن المخرج من كيد الحاسد هو الرجوع إلى الباري عزّ وجلّ وترك الأمور لأعنتها، والمثابرة على العمل المخلص فهو دواء المحسود وداء الحاسد، فالوطن في حاجة إلى رجال يعملون لأنهم يرغبون أن يعملوا، رجال يحسنون الإنتاج أكثر من قدرتهم على التملق والانتهاز، رجال ليس لديهم أغلى من كرامتهم.
زن من وزنت بما يزنك
وما يزنك به فزنه
من جاء إليك فرح إليه
ومن جفاك فصدَّ عنه
من ظنَ أنك دونه
فاترك هواه إذن وهنه
وارجع إلى رب العباد
فكل ما يأتيك منه |
هذه المعاني الجميلة هي شيم ذوي الألباب، وخلائق ذوي النهى والأحلام، فوربي لا يجد النبيل متعة ألذّ من الكرامة، كما لا يجد الذليل متعة ألذّ من المهانة، فكلاهما قد نال مراده بإشباع مبتغاه، غير أن البون شاسع بين الواقعتين، والفرق في السلوك واضح جلي، وللمرء أن يختار وما يتوافق ما حباه الله من قيم، وارتضاه لنفسه من واقع، فهل يعي كل رئيس ومرؤوس هذه المعاني لنكون جميعاً في خدمة المواطن، وينأى بنفسه عن الحسد، ويتسلح بالعمل، فالمواطن، والوطن في حاجة إلى جهود المخلصين بدلاً من حجبها بأيدي الحاسدين.
|