تختلف الوفادة في المعهود البشري، عند الناس وتعاملهم، فوافد يأخذ ولا يعطي، ووافد يعطي ولا يأخذ، ووافد يعطي ويأخذ، أما الرابع فهو وافد لا نفع ولا ضرر منه : لا يعطي ولا يأخذ.
والمسلمون في أنحاء العالم حلَّ بهم ضيف كريم، وأناخت رواحله بفناء بيوتهم، عليها البشائر والهدايا، وقد كانوا يتلهّفون لمقدمه، ويترقبون أخباره، ومتى تحلّ وفادته، لسرورهم بمقدمه، وما يحمل من خير.
إنه شهر رمضان، ذلك الشهر الذي هو من أكثر الأوقات عبادة، وأمكنها فرصة لمن قصّر حتى يعوض ما أضاع في سالف أيامه، لما خُصَّ هذا الشهر من فضائل، وما أودع الله فيه من خيرات توزّع، وما هيأ الله فيه من نشاط على العمل، وحب للخير، فقد روى أبو هريرة مرفوعاً أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفّدت الشياطين ومردة الجن، وغُلّقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة).
إنه فضل من الله يسبغه سبحانه على عباده، من أول ليلة يبرز هلالها في الأفق، إعلاماً بقدوم هذا الوافد الكريم، وما أكثر ما يسبغ الله من الفضائل والكرم على عباده، في هذا الشهر، وهذا الحديث الشريف، يوضح جانبا منها، فكل منافذ الشر تسدّ: حيث تصفد الشياطين ومردة الجن، ليضعف نشاطها وتثبط الهمم، ويحصل تكاسلها عن العمل، حيث الأثر يلحظه الإنسان في المجتمع والمسجد القريب همة وعملا متميزا من أول يوم في هذا الشهر عن الأيام السابقة له: قراءة القرآن تضج بها جنبات المساجد، والوافدون للصلاة والعبادة فرضا ونفلا، يتكاثر عددهم، بزيادة ظاهرة: رجالا ونساء وولدانا وفتيات، كأنهم في تفير عام، ولكنه نفير عبادة وطمعا في التزود من الخير.. وما أكرمه من تنافس ومسابقة.
وتغلّق أبواب النار، ولا يفتح منها باب طوال مدة الشهر لأن الخير والشر لا يتعانقان، ورمضان شهر الخير، وشهر يفيء الله فيه سبحانه على عباده من فضله، ليهيئ لهم السبل ويفتح أمامهم المعابر المعينة على الخير، ويقفل منافذ الشر، ودعاة الشر، إلى جانب ما يسره الله من خير ومساعدة على فعله، بتنشيط النفوس، وإعانة الهمم، وبتيسير الطرق المؤدية إلى ذلك الخير، حيث يفتح الله أبواب الجنة، ولا يغلق منها باب، لأنها تستبشر بضيوف رمضان، الذين يحيون أيامه ولياليه: صياما وقياما، وملازمة للعبادة التي أعانهم الله عليها، وتلاوة للقرآن الكريم، يعينهم على ذلك المنادي الذي هيأه الله ليخاطب قلوبهم: بالدعوة إلى الخير وترغيبهم فيه حتى يزدادوا نشاطا، وتحذيرهم من الشر وترهيبهم من الاقتراب منه، لعلهم ينعمون بالهبات والفضائل التي جعلها الله ميسرة في شهر رمضان، فإن من أكبر النعم الفوز بالجنة، والنجاة من النار، حيث يمتنّ الله على الصائمين، بكمّ جزيل كل ليلة يفوزون بالعتق من النار.
ولذا وزّع رسول الله صلى الله عليه وسلم شهر رمضان إلى ثلاثة أجزاء: أوله رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وأبواب الجنة تفتح في هذا الشهر لكثرة الأعمال الطيبة، ورقة قلوب الصائمين، وحبهم للعبادات التي أعانهم الله عليها: فالأجسام تتفاعل بارتياح مع العبادات والصلاة: قياما وركوعا، وسجودا وجلوسا، والألسن تلهج بتلاوة القرآن الكريم، وذكرا لله، تسبيحا وتهليلا، وحمدا وتكبيرا، والأعين تكف عن النظر إلى ما حرم الله وتقصره على ما أباحه الله، والأيدي: تنبسط في النفقة على النفس والأهل والولد توسيعا واستجابة، وعلى الفقراء والمحتاجين نفقة وصدقة، وتفقدا للمساكين، تحقيقا للأخوة الإيمانية التي أمر الله بها، وأداء للواجب الذي حث عليه جلّ وعلا بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (24-25) سورة المعارج
والأقدام تنشط في السعي إلى بيوت الله، رغبة في زيادة الخير، وزيادة الخير في التّقوى، فرص كثيرة أمام الإنسان في رمضان يجب اغتنامها. وهذا من هدايا شهر رمضان التي يسبغها الله على عباده، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله حديثا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله).
ومن فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن خصهم بهذا الشهر الكريم، لما فيه من الفضائل، التي حرمت منها كثير من الأمم على وجه الأرض، حيث غيروا وبدلوا في شرائع ربهم الذي شرع لهم، فخالفوا الأمر، وتحايلوا في الصيام، فمنهم من جعله في أوقات يختارونها، ومنهم من قلبه إلى الليل، ومنهم من جعل الصيام عن أنواع من الأطعمة فقط، ومنهم من اختصر الأيام بحسب هوى النفس مع أن الله سبحانه أخبر في كتابه أنه مفروض على الأمم السابقة قبل أمة محمد، لكنهم حرموا الخير بالمعصية والاختلاف يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة ، أي إن استجبتم واحتسبتم فإنما يقودكم إلى هذا التقوى وهو مراقبة الله في السر والعلن.
فكان من فضائل هذا الشهر، ومن العطايا الجزلة التي يسبغها الله عباده الصائمين الصادقين: أن الصوم من أفضل العبادات وأنه السبب لمغفرة الذنوب، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). ومن فضائله علاوة على أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأن الملائكة تستغفر للصائمين وتدعو لهم: أن الله سبحانه يتولى بنفسه مجازاة الصائم فضلا منه وإحسانا، وأن الصائم بصيامه يكون له جُنّة أي وقاية من النار، كما روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فيقول الله سبحانه: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي).
وأن الله يعين الصائم: بتصفيد الشياطين ومردة الجن، حتى لا يترصدوا له ويفتنونه ويلهونه عن طاعة الله، وأن للصائمين بابا من أبواب الجنة لا يدخل معه غيرهم اسمه الريان، فإذا دخلوا أغلق، وأن الصائم له فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولذا يجب على الصائم حتى يدرك الفضائل الكثيرة لشهر الصوم، أن يراعي آداب الصيام، فلا يرفث ولا يفسق ولا يسبّ ولا يحصل من لسانه غيبة ولا نميمة ولا بهتان ولا كذبة، ليحجزه الصوم عن هذه الأعمال التي تجرحه وتسبب عدم قبوله كما في حديث المرأتين اللتين قاءتا دماً ولحماً عبيطاً.
مراحل التشريع
يخفّف الله عن عباده في التشريع ليمتحن إيمانهم، وحسن استجابتهم، فقد حدث موسى بن هارون، بسنده إلى السدى قال: كُتِبَ على النصارى رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء في شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كتب عليهم، فلم يزل المسلمون يصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار، يقال له: أبو قيس بن صُرْمَه، وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر، فأتى أهله بتمر، فقال لأهله: استبدلي هذا التمر بطحين، فاجعليه سخينة، لعلي أن آكله، فإن التّمر قد حرق جوفي.
فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعت فأبطأت عليه، فنام فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل وأصبح صائما، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشي، فقال: ما لك يا أبا قيس، أمسيت طليحا - يعني ساقطا من الإعياء والهزال - فقص عليه القصة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقع على جارية له- في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر رضي الله عنه، كلام أبي قيس، رهب أن ينزل في أبي قيس شيء، فتذكّر هو فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله إني أعوذ بالله، إني وقعت على جاريتي، ولم أملك نفسي البارحة.
فلما تكلم عمر تكلم أولئك الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديرا بذلك يا ابن الخطاب، فنُسِخَ ذلك عنهم فقال الله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} (187) سورة البقرة يقول: إنكم تقعون عليهن خيانة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ}، يقول: جامعوهن ورجع إلى أبي قيس فقال: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (187) سورة البقرة.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر، ذهب إلى بيته مغتما، فلما بلغ بيته أرسل الله رسول الله فأنبأه بعذره في آية من القرآن، وأمر الله ورسوله أن يضعها في المئة الوسطى من البقرة، فقال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ..} الآية يعني بذلك فعل عمر بن الخطاب، فأنزل الله عفوه (تفسير الطبري 3: 501 - 502).
|