كتب صلاح عبدالصبور وهو في الأربعين في أول سطر في كتابه (عمر من الحب): يخطر لي أني سأموت في مفترق الطريق القادم!.
وقبل الخمسين، ظن صلاح عبدالصبور نفسه معمراً، فكتب مبكراً اعترافاته في كتابه (على مشارف الخمسين).
ومات صلاح عبدالصبور فجأة بالسكتة الشعرية.
ويبدو أن قلوب الشعراء المليئة بالمشاعر كالثمار الناضجة سريعة العطب، لم يطق صلاح عبدالصبور كلمة طائشة في سهرة عابرة، وسقط الشاعر لفرط مشاعره مستجيباً لهواجسه.
ولم أعرف شاعراً مثل صلاح عبدالصبور في الموهبة والألم، وكان أكثر شعراء جيله ثقافة وأشدهم صدقاً مع النفس والآخرين، ولم يكن أعذب الشعر عنده أكذبه، بل كان أعذب الشعر أصدقه.
وكان يعترف أنه يبكي وهو في العاشرة حين يقرأ ماجدولين وسيرانو دي برجراك، وكان يقرأ هايني وهو بالشبشب والجلباب في قريته، وكتب الشعر في الثالثة عشرة. ثم انفجر ديوانه الأول في مصر (الناس في بلادي) وهو في الخامسة والعشرين، وأثناء معركة الشعر الحديث، كان عباس العقاد رئيساً للجنة الشعر وكان لا يعترف بالشعر الحديث، ولكن العقاد لم يعترف إلا بموهبة صلاح عبدالصبور، وكان العقاد يقول على طريقته:
هذا (الولد) هو الوحيد الذي قرأ.
وكان صلاح عبدالصبور يعترف، أنه يتصاغر أمام العقاد العملاق، ولا يستطيع أن ينسى أنه كان يرتجف صبياً وهو يقرؤه.
وقرأ صلاح عبدالصبور مبكراً أشعار شيلي وكيتيس وكولردج وت.س اليوت، ولم يتعرف على الثقافة الغربية على كبر، وقرأ ما أحب، وانتقى وتذوق من الغرب، كما أخلص للمتنبي والمعري وشوقي، وعلمته المقارنة سعة الأفق، وشيئاً من النفور من مدارس النقد الجامدة، وكان يحس ويفرض أن الحياة فضائل، وأعظم الفضائل هو الصدق، وبعد الصدق فضيلة الحرية، ولهذا جاءت مسرحية مأساة الحلاج وقصائد حجم التتار، وشنق زهران، في ديوان (الناس في بلادي) وثلاث صور من غزوة في ديوان (أقول لكم) وقصائد لوركا، وأحلام الفارس القديم كلها تمجد الحرية.
وبقدر أحزانه كان صلاح عبدالصبور أكثر شغفاً بالضحك مثله مثل زميله الشاعر الفذّ صلاح جاهين وكلاهما مات فجأة مبكراً بالسكتة الشعرية، لأن قلوب الشعراء المليئة بالمشاعر كالثمار الناضجة تسقط فجأة، ويا للأسى على فراق شاعر موهوب لا يتكرر في موهبته وصدقه.. وأحزانه.
|