يعرف المحققون في قضايا الإجرام أنه ليست هناك جريمة كاملة، إذ غالباً ما يترك المجرم خيطاً رفيعاً يستدل به إليه فيقع في يد العدالة، ويدرك الاقتصاديون في المقابل أنه ليس هناك عقل كامل، ولذلك فهم يفترضون في بناء أي نظرية اقتصادية أن الإنسان كائن عاقل، بمعنى أنه إذا كانت الحالة (أ) أفضل من الحالة (ب) فإن الإنسان سيفضل بالضرورة الحالة (أ) على الحالة (ب).
ومن ناحية منطقية، فإن الإنسان لا يقوم بافتراض شيء ما إلا إذا لم يكن متأكداً من الأمر وللاقتصاديين في هذا الافتراض حق ووجهة نظر صائبة. إذ لو ترك الأمر لأهواء الناس لاختلط الحابل بالنابل ولما أمكن التحكم في تصرفاتهم واخضاعهم لمحددات واضحة يمكن أن تبنى عليها نظرية اقتصادية موضوعية.
وإذا كان صحيحاً أن للناس فيما يعشقون مذاهب، فإن ما (يذهب) إليه شخص قد لا يكون بالضرورة متفقاً مع العقل أو المنطق. ففي عرف العشق قد يجوز ما لا يجوز، وما يسري على العشاق قد لا يسري على غيرهم.
وبناء النظرية الاقتصادية على افتراضات يعطيها البعد العملي ويضفي عليها قيمة تبعد عن علم الاقتصاد تهمة التقلب التي يلصقها عليه البعض بحكم ارتباطه بالإنسان، وهو الكائن المتغير الذي لا تستقر أموره على حال.
ومن النظريات الاقتصادية التي تعزز هذا المفهوم العلمي لعلم الاقتصاد، تلك التي اشتقت من تجربة واقعية وكشفت العلاقة العكسية القوية بين مستوى الأسعار ومعدل البطالة في الاقتصاد، والتي استنبطها الاقتصادي فيليبس بعد مراجعته للبيانات التاريخية ذات العلاقة في الاقتصاد الانجليزي خلال الفترة من 1861م إلى 1957م واشتق منها ما يعرف في أدبيات الاقتصاد بمنحنى فيليبس. ومراجعة البيانات التاريخية هي جزء من الدراسات الميدانية أو المسحية التي يستخدمها الاقتصاديون في أبحاثهم العلمية لتعزيز فرضية معينة أو دحضها، أو بناء نظرية لأغراض البحث العلمي. وأذكر في هذا السياق ما توصلت إليه دراسة ميدانية عن نتائج غابت عن ذهن صاحب القرار. وتبدأ هذه القصة عندما فشلت الإدارة الأمريكية في تسويق العملة الورقية الجديدة فئة الدولارين التي أصدرتها عام 1976م بمناسبة ذكرى مرور مائتي عام على تأسيس الولايات المتحدة الأميركية. وقد كلفت الإدارة الأمريكية فريقاً من الاقتصاديين لدراسة أسباب عزوف الناس عن استخدام العملة الجديدة. وجاءت نتائج الدراسة بما لم يكن يتوقعه أحد، إذ لم تجد العملة الجديدة قبولاً لسبب بسيط جداً وهو أن أجهزة المحاسبة، الكاشيير، في كل المحلات التجارية لم تكن بها خانة إضافية لوضع العملة الجديدة. ولهذا السبب البسيط اصبحت هذه العملة مجرد ذكرى يحتفظ بها هواة جمع العملات الورقية في جميع أنحاء العالم، ولم تحقق الغرض الأساسي الذي أصدرت من أجله بأن تكون جزءاً من منظومة النقد الأمريكي المتداول.
ويذكر الأمريكي جيمس آرشيليز في كتابه (استدعاء الكوارث.. دروس من حافة التكنولوجيا) حادثة غرق حفار البترول (أوشن رينجر) الذي وصفه الخبراء بأنه غير قابل للغرق مثل سفينة تايتانك العملاقة. غرق هذا الحفار الأمريكي في عام 1982 وغرق معه طاقمه المكون من 84 شخصاً. ويقول مؤلف الكتاب إن سبب غرق الحفار كان غريباً للغاية وغير متوقع، عند أكثر المتشائمين، فقد ترك صانعوه فتحة طولها حوالي متر ونصف المتر في أعلى إحدى دعائم الحفار للتخفيف من وزنها. وعندما هبت عاصفة هوجاء مال الحفار وامتلأ جوف الدعامة بالماء بفعل العاصفة فسقط وغرق.
الخلاصة، ليس هناك عقل كامل، والأمور لا تقاس بمطلقها وإنما بتكوينها النسبي. الكمال لله وحده سبحانه وتعالى يدبر الأمر كما يشاء وهو على كل شيء قدير.
|