يعرف العالم الإسلامي فوضى اجتماعية وثقافية كل سنة مرتين، مرة عند بداية شهر رمضان ومرة أخرى عند نهايته، بل نجد هذا العالم يعيش تناقضاً صارخاً حين يؤرخ بالتقويم القمري الهجري ثم يتعامل بالتقويم الغريغوري، وكل ذلك بسبب عجزه في التوفيق بين رأي الشرع ورأي العلم، علماً بأن الإسلام قد جاء بشريعة كاملة مستوعبة لمصالح البشر لا تبديل فيها ولا تغيير فأحكامها ثابتة ومقاصدها جليلة، واضحة تحمل المكلفين على أيسر السهل وأسهلها، حسب اختلاف أحوالهم في سائر الأزمنة والأمكنة، فلا مشقة فيها ولا حرج، قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال تعالى {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
ومن التيسير على الناس أن الظواهر الفلكية المعتادة قد جُعلت علامات يهتدي بها في مواقيت الصلاة والصيام والإفطار ودخول الأشهر القمرية الشرعية، بيد أن نوع الخطأ الذي يكثر وقوعه ويسبب هذا الاضطراب الصارخ هو قبول قول الشاهد برؤية الهلال في الليلة السابقة على سنن الله الجارية التي جعلها الله على وجود الهلال (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا على شعبان ثلاثين) مع العلم بأن هذا الحديث لا يناقض الاعتماد على الحساب الفلكي في عملية استطلاع الاهلة والاستفادة منه في (فلترة) الشهادة، لأن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا على درجة تأهلهم من معرفة الحساب فضلاً عن التقديرات الفلكية وسير الكواكب، ويؤيد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم (نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا..) رواه البخاري ومسلم يعني مرة تسعة وعشرين مرة ثلاثين.
وقال الحافظ ابن حجر شارحا حديث (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتيسيرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير.
فإذن ربط الصوم بالرؤيا البصرية معلل بعلة منصوصة هي حال الأمية التي كانت تعيشها الأمة العربية في ذلك الوقت ويؤيد هذا ما رواه أهل التفسير أن بعض المسلمين سأل النبي عليه الصلاة والسلام: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص حتى يصير كما كان؟ فأنزل الله تعالى قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} فعدل سبحانه في الجواب عن عين سؤالهم إلى جواب منافع الأهلة في الدين والحياة فهذا ما يقدرون على فهمه في ذلك الوقت، وهو كذلك أجدى عليهم وأنفع لهم. فغرض الشارع الحكيم من مواقيت العبادة معرفتها، لأن حقيقة الرؤية ليست مشروطة في اللزوم كما نص عليها الفقيه المجتهد ابن دقيق العيد: وما ذكر صلى الله عليه وسلم من نوط إثبات الشهر برؤية الهلال أو إكمال العدة بشرطه قد علله بكون الأمة في عهده كانت أمية، ومعلوم أن من مقاصد بعثته إخراجها من الأمية لا إبقاؤها فيها قال تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، فتبين لنا أنه في عصر النبوة ليس من سبيل لإثبات الصوم والإفطار غير الرؤية البصرية التي أمرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا زالت حالة الأمية هذه وأصبح من بين المسلمين علماء متخصصون تخصصاً دقيقاً في علم الفلك أفلا يجب أن يزول المعول بتلك العلة التي هي حالة الأمية والتي بها ربط الصوم بالرؤيا البصرية كمسألة الدّين في السفر إذا لم يوجد الكاتب ناب عنه الرهن المقبوض، بل من المعلوم من كتب الأصول انه عند زوال العلة وهي هنا الأمية يتحتم الرجوع إلى الحساب الفلكي، ولا حرج من التعويل عليه وحده باعتباره أصدق وأبرأ للذمة، وهل من شرع الله تعالى أن تتجاهل يقيناً علمياً لنتمسك برؤية بصرية مجردة فيها من الشك والاضطراب أضعاف ما فيها من اليقين والثبوت، ومعلوم أن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صومٍ وصلاة وحج بالرؤيا معروفة لا تنكر، وحسنها لا يجحد وذلك أن الإسلام دين عام للبشر من بدوٍ وحضر، وأول ما ظهر في أمة أمية كما أوردناه سابقاً فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه عدم الاختلاف في ان تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فردٍ من أهله.
أما ما ورد عن السلف الصالح رحمهم الله بعدم الأخذ بالحساب هو أن دقة الحساب لم تصل إلى الدرجة المعهودة في هذا الزمان من العلم اليقيني القطعي فهو أدق علم على الوجود ولا أظن أحداً بمقدوره أن ينكر هذه الحقيقة فهو علم يقيني لا يتسرب إليه الشك بخلاف الرؤية البصرية، فالسلف الصالح اجتهدوا في عصرهم في مسألة الحساب الفلكي، وتوصلوا إلى ما وصلوا إليه، ومعلوم أن لكل عصرٍ مشكلاته ووقائعه وحاجاته المتعددة، وصوابية اجتهاد جيل ما لا يعني أبداً صوابية وصلاحية ذلك الاجتهاد لكل عصر.
أما اليوم ولله الحمد فعلماء الفلك الأجلاء تقدموا في دراسة الفلك والهيئة وحساب حركات الشمس الظاهرة، ومن هذا استطاعوا حساب وقت الزوال بالساعات والدقائق وكذلك حساب وقت الغروب ووقت الشروق ثم قدروا وقت الشفق وعينوا نهايته فلكياً وحولوه بالحساب إلى زمن ثم حسبوا طول الظل بالنسبة إلى ارتفاع جسم موضع الشمس وحولوه بالحساب كذلك إلى زمن حتى اننا اليوم نجد المؤذن يقرأ الميقات من التقويم ثم ينظر في الساعة ثم يؤذن. وهكذا استبدلنا بعلامات مواقيت الصلاة ساعات ودقائق وأخذنا بصورة عقارب الساعة بدلاً من دورة الشمس تيسيراً من الله ونعمة، وأجمع على ذلك إجماع الأمة لا يختلف عليه إمام أو عالم أو فقيه ولم يقل أحد إن هذا إحداث في أمر الدين أو انه بدعة.
فهل يعقل أن يؤذن المؤذن الملتزم بجدول الحساب ثم تطلع الشمس؟ كلا، بل لو أن مؤذناً ترك العمل بالحساب (التقويم) وقال أريد أن اجتهد بالعلامات، فإذا وقع الخطأ نقول مثل قول عمر رضي الله عنه (خطب يسير، وقد اجتهدنا) حينما افطر ذات يوم من رمضان في يوم ذي غيم ورأى انه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين طلعت الشمس لأنه رضي الله عنه استنفد كل ما في وسعه في تحري غروب الشمس.
وعليه فإننا نمنعه ولا نجيز متابعته لأن عمر رضي الله عنه اجتهد ولم يهمل حسبما يقدر عليه في عصره فصار الخطب يسيراً، أما اليوم فمن ترك حساب المواقيت واعتمد على رؤية العلامات كما في الزمن السابق فهو مهمل مقصر لأنه ترك علماً يحقق له مقصوداً شرعياً ومن ثم فلا يعتبر مجتهداً فيقع عليه الإثم، ونكران الحساب وعدم اعتباره لم يزل يوقع الأمة في الاضطراب والاختلاف والنزاع حتى في البلد الواحد بل وفي المحلة الواحدة، ففي القرن الأول الهجري أخطأ الناس رغم اعتمادهم على رؤية العدول في إثبات شهر رمضان بيوم فأفطروا يوماً فلما صاموا ثمانية وعشرين يوماً رؤي هلال شوال فتبين لهم الخطأ حينئذ، واضطر الناس إلى جبره بالإفطار من الغد ثم قضاء اليوم الأول، فقد روي أن علياً رضي الله عنه صام بالكوفة ثمانية وعشرين يوماً من شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر منادياً أن ينادي: أقضوا يوماً فإن الشهر تسعة وعشرون يوماً، قال ابن مفلح في الفروع (إن صاموا ثمانية وعشرين ثم رأوا هلال شوال قضوا يوماً فقط، نقله ابن حنبل واحتج بقول علي رضي الله عنه ولبعد الغلط بيومين).
وحكى السبكي- رحمه الله- (انه في سنة 748هـ أثبت أحد قضاة الشام هلال ذي الحجة ليلة الأحد، ولم تكن حينئذ الرؤيا ممكنة)، وحكى ابن عابدين في رسائله عن صاحب كتاب البحر الرائق انه وقع في زمانه سنة 955هـ (أن أهل مصر افترقوا فرقتين، فمنهم من صام ومنهم من لم يصم، وهكذا وقع لهم في الفطر..... حتى ان بعض مشايخ الشافعية صلى العيد بجماعة دون غالب أهل البلدة، وأنكر عليه ذلك لمخالفة الإمام). وقال ابن عابدين أيضاً (وقع في زماننا سنة 1225هـ أن رجلاً شهد برؤية الهلال في دمشق، فحصل له من الناس غاية الإيذاء حتى صار هزأة وضحكة وصار يشار إليه بالأصابع في الأسواق حتى بلغني عنه أنه أقسم ليعصبن عينيه إذا دخل رمضان الآتي)، وما عام 1404هـ عنا ببعيد حينما صمنا ثمانية وعشرين يوماً فخرج هلال شوال ليبرهن للناس صحة ما قاله الفلكيون آنذاك، فلم يأخذوا بقولهم ونحن في عصر المناظير الفلكية والأقمار الصناعية التي تراقب الهلال بدقة متناهية لم يسبق لها مثيل.
ثم أن الرؤيا البصرية وسيلة من وسائل العلم لا غير، فإذا كان صاحب الشريعة أشار إلى استعمالها فليس معنى ذلك أنه الزمنا الاقتصار عليها حتى ولو تمكنا من وسائل أكثر ضبطاً معضدة لها او مستقلة عنها، والعلماء الذين أخذوا بقول الفلكيين رأوا ان حسابات علماء الفلك في اثبات أهلة الشهور انما كان مبدؤها وأساسها الارصاد الكثيرة التي قام بها الإنسان منذ العصر البابلي وقالوا إن الفرق بين المعتمد على الحساب والمعتمد على الرؤيا الحاصلة بمناسبة أحد الشهور أن الأول يعتمد على شهادات كثيرة بلغة كثرتها عدد التواتر بينما لا يعتمد الثاني إلا على مشاهدة أحادية لا تقوى على مغالبة المشاهدات المتواترة إذا تعارضت معها.
فاستنتجوا ان الحسابات الفلكية دلائل قطعية، قال القرافي في فروقه (إن حساب الأهلة والكسوفات والخسوفات كلها قطعي فإن الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم، قال تعالى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي هما ذو حساب فلا ينخرم ذلك أبدا). ومن قواعد الشريعة المتفق عليها ان العلم مقدم على الظن فلا يعمل بالظن مع إمكان العلم، علماً بأن شريعتنا تقوم في أكثرها على الحساب نأخذ به كعلم شرعي نعترف به في عباداتنا ومعاملاتنا فأوقات الصلاة تعتمد في سبيل تحديدها على علم الحساب واثبات الميراث وتوزيع الحصص الإرثية تعتمد في سبيل اقرارها على الحساب.
والنبي صلى الله عليه وسلم ضبط دخول الشهور الهلالية بوجود الهلال الجديد مع رؤيته أو إمكان رؤيته، والضابط الذي جعله النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم هو وجود الهلال مع إمكان رؤيته، فإن تحقق هذا الضابط المزدوج فإنه يتحدد ما إذا كان الأمر يحتاج فيه إلى شهادة أم لا، ووجود الهلال الجديد مع إمكانية رؤيته أمران يحددهما حساب علماء الفلك.
وللأهلة الموجودة باعتبار إمكان رؤيتها ثلاث حالات كما يقول السبكي في فتاويه (فتارة يحصل القطع إما بإمكان الرؤية وإما بعدمه وتارة لا يقطع بل يتردد، والقطع بأحد الطرفين مستندة العادة) كما فصلها أيضاً الشهاب الرملي من الشافعية إلى ثلاث حالات.
فإذا قطع الحساب بعدم إمكانية الرؤية فإن الشهادة ترد، وذلك لقيام الدليل القطعي من سنة الله تعالى الكونية الثابتة على بطلان الشهادة كمن يشهد برؤية الهلال قبل ولادته كما هو الحاصل عندنا في الوقت الراهن، قال الإمام تقي الدين السبكي (إن الحساب إذا دل بمقدمات قطعية على عدم إمكانية رؤية الهلال لم يقبل فيه شهادة الشهود وتحمل على الكذب أو الغلط) لأن المشهود برؤيته غير موجود في الأفق أصلاً وشرط المشهود به ان يكون ممكناً حساً وعقلاً وشرعاً، والشرع لا يأتي بالمستحيلات ولا بما يبطله عيان أو برهان ولا يناقض سنن الله الكونية، وصحيح المعقول لا يتعارض مع صريح المنقول كما نص عليه ابن تيمية وابن القيم والسبكي وغيرهم من العلماء، فإنه لم يأتِ نص في الشريعة ان كل شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحاً او باطلاً بل قال تعالى {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، وقال تعالى {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}.
قال ابن القيم (فالخبر الصادق لا تأتي الشريعة برده أبداً وقد ذكر الله في كتابه من كذب بالحق).
وقال جمال الدين القاسمي (إن ما يدل عليه الفن (الفلكي) من استحالة الرؤية بإجماع أهله يوجب رد تلك الشهادة، لأنه بمنزلة جرح أولئك الشهود)، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل (إذا أتاكم مخبر برؤية الهلال، فأقبلوا قوله على أي حالٍ سواء وصلكم ما تعلمون به بطلان شهادته أم لا)، فالشهادة إذا وقعت قبل نهاية الكسوف أو قبل الولادة فقد تعلقت بمستحيل واقترن بها ما يكذبها وقام الدليل القطعي على بطلانها، فوجب ردها من باب رد الظني بالقطعي كما نص عليه الفقهاء المتخصصون.
فتحرير شهادة الرؤية وتخليصها من شوائب الريبة أمر مطلوب في تلقي الشهادات، وهذا مثل ردنا اليوم لخبر المؤذن إذا أذن لصلاة المغرب قبل وقت الغروب المبين بجدول المواقيت، لأن خبره سابق على نهاية اقتران الشمس بخط الأفق الغربي وسقوطه تحتها، كما اننا لا نقبل اعلام المؤذن بدخول وقت الظهر قبل موعد المواقيت، لأن حساب ذلك قطعي لا يتطرق إليه احتمال ولا يدخله التوهم، وخبر المؤذن المبني على رؤية العلامات الظاهرية ظني يتطرق إليه الاحتمال والوهم، فرددنا خبر المؤذن الظني بالتوقيت الحسابي القطعي.
وبذل الأسباب في تحري الرؤية الصحيحة والوقاية من الرؤية الوهمية التي عمت بها البلوى وأضحكت علينا الأعداء وأحزنت الأصدقاء، الأمر الذي جعل التاريخ الهجري يحتضر ويهمشه كثير من المسلمين للأسف الشديد بسبب الجهل بسنن الله الكونية الثابتة والإعراض عما فتحه الله علينا ويسره لنا من علوم قطعية وأجهزة دقيقة ووسائل ما كانت تخطر على قلب بشر لكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
اللهم لا تجعلنا ممن إذا جهل شيئاً أنكره واجعلنا ممن إذا جهل شيئا تعلمه وانتفع به على الوجه الذي لك فيه رضا ولنا فيه صلاح {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|