لو كان المسلمون الأوائل يستقبلون رمضان بمثل ما نستتقبله به الآن ما خرجوا إلى الجهاد ولاقادوا الفتوح ولا انتصروا على شرور أنفسهم قبل أن ينتصروا على عدوهم، ولزادت لحومهم وكبرت كروشهم وترهلت أبدانهم وكثرت أمراضهم ولأقاموا المستشفيات الكبرى للأمراض المستعصية وانشغلوا بها عن الجهاد والفتوح لكثرة أمراض الشعوب.. السكر والكولسترول وتصلب الشرايين والسمنة وضغط الدم وكلها أمراض حديثة ترتبط بقلة الحركة والكسل والإسراف في شهوات البطن والفرج والنوم التي تزيد في المسلمين أكثر مما تزيد في غيرهم من شعوب الأرض!!
فعندما يوشك شهر رمضان على الانقضاء ورمضان المبارك على القدوم تشهد أسواق المواد الغذائية ومجمعات التسوق في معظم بلاد المسلمين إن لم يكن كلها موجة هجوم كاسح عليها تأتي على الأخضر واليابس، ويخرج التجار بضائعهم القديمة والجديدة، فيسلك الكاسد ويستهلك الجديد، والناس في سُعار وكأنهم في مجاعة أو على أبواب حرب كونية - لاسمح الله- أو لأن الأسواق ستغلق أبوابها في مستهل رمضان، وهذه الإحصائيات تبشر التجار بزيادة المبيعات بنسبة 50% في الأسواق السعودية في شهر رمضان عن سائر الشهور وأدى هذا السعار على المواد الاستهلاكية إلى ارتفاع الأسعار، فارتفع سعر الطحين بنسبة 12% والتمور بنسبة 90% والخضراوات والعصائر بنسبة 25% والدقيق الأبيض بنسبة 12% وترتبط هذه الزيادات في الأسعار بالإقبال على الطلب وزيادة الاستهلاك فمثلاً استهلاك السكر في رمضان في العالم الإسلامي كله ربما يزيد على استهلاكه في بقية الشهور مجتمعة، فحتى أصحاب الحمية ومرض السكر يضعفون أمام حلويات رمضان ويأخذون إجازة من المحمية ويطلقون لرغباتهم العنان.
هذا الشهر العظيم المبارك يرتبط الآن عند كثير من المسلمين المعاصرين بكثرة النوم وقلة العمل لحد الكسل وكثرة الأكل لحد البطنة والمرض وكثرة السهر على مشاهدة المعاصي ومجالس القيل والقال والبعد عن ذكر الله.
شهر رمضان المبارك الذي أُنزل فيه القرآن.. شهر العبادات والطاعات.. الشهر الذي تصفد فيه الشياطين وتفتح أبواب الجنة.. وتتاح فيه الفرصة لتوبة التائبين واستغفار المستغفرين.. الشهر الذي فيه ليلة خير من ألف شهر من أدركها في لحظة خشوع وطاعة نال بها خير الدنيا والآخرة.
شهر رمضان شهر الحركة والجهاد والإنتاج في تاريخ الإسلام والمسلمين.. الشهر الذي قاد فيه المسلمون معظم غزواتهم وحركات جهادهم وحققوا فيه أعظم انتصاراتهم.. فتحوا فيه عواصم الدنيا وأقاموا بالإنتاج والعمل أعظم حضارات الكون.
ما دخل المسلمون معركة في رمضان إلا وانتصروا فيها حتى ولو كانوا مهزومين مشتتين ضعاف الإيمان، فالله لا يخذل من صدق معه في هذا الشهر، وتعد حرب أكتوبر أو حرب رمضان سنة 1393هـ (1973م) التي تحققت بالنصر بعد هزائم ما حقة في تاريخنا الحديث من معجزات هذا الشهر وتوفيق الله فيه.
وماشد مسلم في هذا الشهر الحزام على بطنه ونفسه الإمارة بالسوء وصدق مع ربه إلا وأعطاه ما أراد وخرج منتصراً في هذه الفرصة الربانية التي تمتنع فيها الشياطين عن ممارسة الوسواس الخناس في قلوب الناس.
إنه شهر فريد فيه فرصة رائعة لمحاسبة النفس وتفقد العتاد والتزود بالزاد.. زاد التقوى لا زاد البطون.. إنه شهر الغفران يضاعف فيه أجر المحسنين بالمال وبحسن الخلق وبالتسامح مع عباد الله وبكف الأذى، فقد أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم) (متفق عليه)، ورمضان شهر تهذيب النفس وترويضها وإعادتها إلى الحق والصدق في القول والعمل فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم :(من لم يدع قول الزور فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (رواه البخاري).
رمضان ليس إمساك عن الطعام والشراب وليس بذل للمال فحسب بل هو برنامج لحياة المسلم كا ينبغي أن تكون طوال شهور السنة يجرب فيها عظمة الإمساك عن الفحش والإيذاء والمنكرات وينفق فيها إلى جانب المال مشاعر المحبة والتعاطف والتسامح والتماس الأعذار لخلق الله فقيرهم وغنيهم فيعيش لمدة شهر في جنة لا لغو فيه ولاكذب ولا إسراف فيها ولا فجور وكل قول أو عمل يؤديه فيها هو عليه مأجور.
|