كتب الأستاذ الأديب حمد بن عبد الله القاضي، في زاويته بجريدة الجزيرة يوم السبت 25-8- 1425هـ عن موضوع منع جوال الباندا، وأن هذا الجوال فيه فوائد عديدة تفوق عيوبه. وأشار إلى أن الواجب أن لا نسارع إلى منع كل ما يمكن أن يستغل استغلالاً سيئاً من قبل ذوي النفوس الضعيفة وإنما يجب وضع أنظمة صارمة تعاقب من يسيء الاستعمال.
هذه المقالة القصيرة المفيدة لأبي بدر أعادت لذاكرتي مسلسل الممنوعات التي مر عليها الدهر في مملكتنا الحبيبة، بدءاً بتجريم الاتصال بواسطة اللاسلكي سواء كان مبرقات أو هاتفاً. ثم اعتبار استقبال أو التعامل مع الأجانب كفراً وإلحاداً، مروراً بتحريم الراديو واعتباره من المس والجن والشيطنة.
كان ذلك في عهد المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله واسكنه فسيح جناته. وقد تعامل - رحمه الله - مع هذه المواقف بشيء من الحكمة والحصافة نظراً لظروف الأوضاع آنذاك.
ثم جاءت معارضة تعليم البنات، وأتذكر قدوم أكثر من مائة سيارة شحن محملة ممن يعتبرون أنفسهم آنذاك علية القوم معارضين ومحذرين بالفساد الذي سوف ينتج عن تعليم الفتيات. معارضة إنشاء محطة التلفزيون وتحطيم الإذاعة التي كان يديرها (طامي) كان من مسلسل المنع وإنكار الجديد باليد. لا ننسى بعد ذلك الطلقات النارية والأحجار التي كانت تطلق على الدشوش المقامة على سطوح بعض المنازل. كما لا ننسى التدخل ببرامج الإذاعة والتلفزيون إلى درجة جعلت كثيراً من المشاهدين ينصرفون إلى القنوات الأخرى. ولا أحد يجهل نتائج هذا الانصراف على الوطن والمواطن. هذا بالإضافة الى كثير من الأمور التي منعت منها المرأة مثل وضع الصورة الشخصية في جواز السفر إلى صدور بطاقة شخصية للمرأة، إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها الكثيرون.
.. ولعل آخر ممنوع ولن يكون الأخير هو جوال الباندا، وكأنه الأداة الوحيدة التي تلتقط الصورة والصوت.. وننسى ان هناك ساعات وأقلاماً تسجل بالصورة والصوت ولا أحد يستطيع أن يتعرف عليها ويعرف عملها.
منع السلوك السيئ، وحماية أعراض الناس واجب ومسؤولية كبيرة.. لا أحد ينكر ذلك، ولا أحد يساوم عليه، أو يطلب التسامح حياله، ولكن المطلوب هو كيفية التعامل الحضاري مع كل أداة.
الممنوعات كلها أدوات، والأداة تعتمد نتائجها على طريقة استعمالها. السيارة أداة نقل تنقل الناس والبضائع من كان إلى آخر. ولكنها قد تتحول إلى وسيلة دهس للبشر إذا أسيء استخدامها، وهكذا الطائرة والباخرة والدراجة العادية والنارية.. الإذاعة والتلفزيون وسيلة إعلامية تعمل على تثقيف الناس والتسلية والترويح عنهم، قد تذيع برامج خير وبركة وتثقيف وإرشاد وقد تذيع وتعرض شراً وإسفافا، الدواء قد يشفي وقد يقتل وهكذا النار. الهواتف الجوالة وسيلة اتصال متنقلة لا أحد ينكر أو لا يعرف فوائدها ومع ذلك يستغلها المجرمون والإرهابيون في تنفيذ مخططاتهم الإجرامية.
وهكذا كل ما على وجه الأرض من أدوات ووسائل يمكن ان تفيد ويمكن أن تضر، والحكم على ذلك هو طريقة الاستعمال والاستخدام. كيف نرشد الاستعمال والاستخدام هو ما نبحث عنه. والبداية في نظري تبدأ من المنزل والمدرسة حيث يعلم الطفل من بداية إدراكه لما حوله ان الله كرمه بإيجاد مخلوقات كثيرة وضعها في خدمته وأن الإنسان صنع وأوجد من الوسائل ما تساعده على الحياة وما يجعل حياته سهلة ميسرة سعيدة، هذه المخلوقات وهذه الأدوات ليست إلا وسائل لإسعاده، وأن عليه ان يستغلها الاستغلال الجيد لكي تكون نافعة. وعليه أن يتجنب استعمالها في الإضرار بنفسه أو بمن حوله حياً أو جماداً. تعليم ذلك للطفل في كافة مراحل حياته بأن الله خلقه على الفطرة السليمة، فطرة الخير والبركة والصلاح، وأن الحياة بمؤثراتها قد تحرف الإنسان عن هذا السلوك الفطري السليم.
بعد المنزل والمدرسة في كافة المراحل يأتي دور المجتمع بوسائله التوعوية والتثقيفية المختلفة من مسجد، واذاعة، وتلفزيون، وصحافة، وندوات، ولقاءات وغير ذلك. عليها تثبيت هذا السلوك والدعوة إليه وتعرية ما يخالفه.
يبقى بعد ذلك - كما أشار أديبنا الأستاذ حمد - الأنظمة التي تحمي القيم والمثل إذ لا بد من وضع انظمة تشجع السلوك الحضاري وتمنع السلوك السيئ.. وتضع عقوبات تتدرج في أنواعها وكمياتها مع أنواع وكميات الجرم.. ويعهد الى جهات تنفيذية بمتابعة التنفيذ حتى لا تكون الأنظمة حبراً على ورق. ولا حاجة لوضع انظمة أو لوائح لكل شيء, فنحن ولله الحمد ندين بدين الإسلام الحنيف وقد حددت مصادره الحلال والحرام والمكروه والمحبب. وقد يتطلب الامر صدور نظام يمنع مس الحرمات والحريات وينص على حرمتها وقدسيتها وعدم المساس بها سواء كان ذلك من قبل هيئات أو مؤسسات أو أفراد.
إن اتخاذ القرارات نيابة عن البشر فيه سلب لحرية القرار في الأمور الخاصة. وقد نهى الله جل جلاله رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فرض الهداية على الناس وقال: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
... {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (56) سورة القصص. لقد أعطى الله كل إنسان عقلا وفكراً وترك له حرية العمل بما لا يتعارض ويتضارب وحريات وحقوق الآخرين. ووضع الجزاء والعقاب.. فلا بد من تعويد الناس وتشجيعهم على اتخاذ القرارات التي تهم شؤون حياتهم بأنفسهم وتحميلهم نتيجة هذه القرارات وما ينتج عنها من سلبيات أو أضرار على الغير. وفي ذلك تفرغ الدولة ودوائرها المختلفة للقيام بمهامها وواجباتها الأساسية. كما يلزم تحديد من له حق الاعتراض أو إصدار التوجيه أو الأوامر في مختلف الشؤون. ذلك أن ترك الأمر مفتوحا لكل مجتهد فيه إشاعة للفوضى وتعميم لاجتهادات فردية قد تكون قاصرة. وقد رأينا ما سببت الفتاوى التي أصدرها بعض من يدعي العلم في إثارة الفتنة وتأجيج حروب الإرهاب. لمسنا ما وصلت إليه قنواتنا التلفزيونية والإذاعية من ضعف نتيجة كثرة الاعتراضات والتوجيهات وعدم حصرها في مصدر واحد.. والله من وراء القصد.
عبد الرحمن بن إبراهيم أبوحيمد
عضو مجلس الشورى |