خدرنا الكلام فكان سلاحنا الأشهر وربما الوحيد في كثير من القضايا!! سواء في تعزيز الإيجابيات أو تقليل السلبيات. في أجواء حماسية يلوك المجتمع بلسانه القضية ثم ينتهي بنا المطاف إلى أن نلقي باللائمة على بعضنا البعض دون تحرك سلوكي، ولا بأس أن يستخدم أسلوب التربية بالتوجيه اللفظي، لكن أن يكون هو أسلوبنا الوحيد فلا وألف لا، إن تغييب التربية بالسلوك باستخدام القدوة أمر جد خطير، يؤكِّد ذلك بقاء ذات السلبيات، بل ازدياد حجمها وهو مرض يحتاج إلى علاج وورم يستلزم استئصالاً؛ أعني الاكتفاء بالمعالجة اللفظية، حتى وإن كان الثمن التضحية بقيادات ورموز ومصادر تربية ترفض تغيير الدور التقليدي الذي تمارسه ردحاً من الزمن أو حتى مؤسسات تتعاطى هذا المنهج.
منذ نعومة أظفارنا ونحن نقتات التوجيهات الكلامية أوامر ونواهي يطلقها اللسان، ربما بعضها لم يمر أصلاً على المرشح العقلي، فكان أن أخذت بالقبول على علاّتها، وبعضها ألهب مشاعرنا وأحرجتنا في دواخلنا، لمثاليتها، أو كانت تكريساً لرفض سلبية اتفق عليه الكبار وليس هناك حرج على الصغير في التعامل معها، فكان الأولى والأمثل بلورة بدائل وتوفير حلول عملية ممكنة التنفيذ بدلاً من القرع اللفظي المتكرر، الذي لا يحقق في الغالب إلا هدف البحث عن رضا أستاذه وقائده التربوي (الأب، أخ أكبر، المعلم، الشيخ والداعية، الخطاب الإعلامي....).
ولست هنا في مكان تأكيد من هو القائد التربوي الأكثر كفاءةً من أولئك ولا معرفة فرق أهمية الصديق عن تلك المؤثِّرات القيادية في الغالب، ولست في مجال تحديد نسب التأثير، ولا أملك أدوات قياس التغيير بشقيه الإيجابي والسلبي الذي يحدثه هذا القائد أو ذاك. لكن من المؤكّد أن جل الناس استخدموا تلك الوسائل. فطموحات الأب هي أهداف لدى المتربي (الابن) شاء أم أبى، وتوجيهات الداعية وخطيب الجمعة والمعلم ووسائل الإعلام والعادات والبيئة هي من يصوغ الفرد سلوكياً.
وإذا كان مؤشر تأثير التوجيهات الكلامية لدى الصغار مرتفعاً، فإنه يتهاوى بعد تقدم المرء في العمر، حين يخبو ضوء قدرته مع التجربة ومحك الاختبار، حينها يكتشف أن التوجيهات اللفظية فقط لم توجد له بيئة مبدعة، ولم توجد له بدائل تحقق الأهداف والغايات التي يلوكها اللسان صباح مساء! بل لم توفِّر مكاناً يفرغ فيها اهتماماته التي ألهبتها تلك الألسنة، وهي كوسيلة وحيدة عاجزة كل العجز أن تقوم بدور المصحح السلوكي.
وليس من المقبول أن نجعلها وسيلة دائمة لحل مشاكلنا. في بيئتنا ومجالسنا بالتحديد شرقنا تارة وغربنا تارة أخرى، في الطرح الكلامي، وتفلسفنا في رؤانا كماً وكيفاً لكن دون سلوك (فعل). لقد غيَّبنا بقصد أو بدون قصد أفعالاً كانت منتظرة لتغيير سلوك غير مرغوب أو تعزيز سلوك حميد، ولذا لم يظهر ربع ولا ثمن ولا عشر وربما ولا واحد من ألف من أثر تلك التوجيهات اللفظية!!!
ترى لمَ نحن عاجزون عن صناعة الحدث وفرض السلوك؟
لماذا يغيب الفعل ونكتفي بالكلام؟
أحسب أن هناك أسباباً كثيرة منها أننا تربينا على هذا الأسلوب وهو تفريغ الشحنات النفسية فحسب، وثمة أمر آخر يستحق الذكر هنا وهو أننا بارعون في رمي الآخرين بالتهمة واللائمة، لكننا عاجزون أن نحمِّل أنفسنا نسبة من المسئولية فنظل كما نحن، فقط نترقب الحل من الغير لأنهم هم السبب!!
وربما غياب الثقة بالنفس يتحمل جزءاً غير قليل من المسئولية. دعوني أضرب لكم مثالاً قد نتفق عليه، حي جديد لم يتوفر فيه مسجد. كل الناس على سبيل المبالغة يرمون التهمة على وزارة الشئون الإسلامية والدعوة والإرشاد، أو يتهمون القادرين بعدم البذل، وضعف الاهتمام بأمور العبادة ورميهم بغياب الإخلاص واللهاث خلف الدنيا، لكن ما دورهم؟
هل يمكن أن يشارك هو مالياً في توفير مسجد مؤقت على الأقل؟
هل يمكن أن يبذل من وقته ليبحث عن متكفل مالي للمسجد؟
أترك لكم الإجابة.
ربما اكتسبتم مهارة التفكير للبحث عن الجواب، فاستثمروها في الإجابة على أسئلة قادمة، أطرحها لكم بغية إثارة عقلية القارئ.
منذ متى ونحن نتكلم إعلامياً وخطابياً وفي مجالسنا عن غلاء المهور؟
ما النتيجة؟!!
مخجلة... أليس كذلك؟
لكن ماذا لو قمنا بإنشاء مؤسسات تزويج هي من تتولى الحديث عن قيمة المهر. وتظهر الفئة التي تؤيِّد خفض المهور، وتعززه فعلياً لا قولياً، وتريح ذاك الشاب الذي لم يعقه إلا الأمور المادية.
ومن الجميل أن نفعِّل ممارسات تحديد المهور والعمل على تخفيضه ونشر ذلك إعلامياً، ويتم ذلك باستخدام قدوات ذات أثر فاعل في المجتمع.
مشهد آخر..
قضية ثقافة الطفل.. قضية جد مهمة.. ماذا تم بشأنها غير الكلام؟! أين البرامج العملية لها؟
أين المؤسسات التي تعنى بهذا الجانب؟
مجرد اجتهادات قليلة لا توازي1% من الطرح الكلامي في الندوات والمؤتمرات واللقاءات والمحاضرات والدورات.
من الجهة المسئولة عنه؟ إلى متى تظل هذه الفئة الأكثر أهمية مهملة؟
أعيد الاستفهام.. إلى متى؟
في نفس الإطار.. من يحمل على عاتقه مسئولية تثقيف الناشئة؟
أهي المدرسة أم المكتبات العامة أم الأندية الأدبية أم النوادي الرياضية أم رعاية الشباب أم جمعية الثقافة والفنون! أم الجمعية السعودية لبيوت الشباب أم جهة غير تلك التي خذلت الناشئ؟!!
تأمل ثم أجب لنفسك!!
تساؤلات أخرى تزيد الجراح... أين المراكز المتخصصة التي ترعى المواهب؟
متى يرتفع عدد ممارسي السلوكيات الإيجابية كطريقة أجدى في التربية حين نغرس القدوات في المجتمع أملاً في التأثير الأقوى؟
لأن ممارسة السلوك أمام الآخرين أجدى من التوجيهات اللفظية..
فمثلاً الحضور المبكر للمسجد من قبل القائد التربوي له أثر بالغ على المرؤوسين في تغيير سلوكهم إيجابياً نحو المسجد.. أليس كذلك؟
قضية السهر إحدى الظواهر السلبية التي يزداد حجمها بشكل مضاعف.. وحين نتكلم عن القضاء عليها أو تحجيمها إلى حد ما يكون الطرح الكلامي كله يصب في جانب الموافقة والقبول والاعتراف بضرورة الأمر..
أما الفعل وتغيُّر السلوك فيظل على نفس المستوى المهترئ!!
ولا شيء جديد في الواقع سوى استمرار الطرح والشكوى دون خطوات عملية!! تأملوا جانباً آخر..
التحق الكثير من أفراد المجتمع بالدورات التربوية والنفسية التي تصب في خندق تطوير الذات.
فكيف هي النتيجة؟
هل الآثار مشجعة للآخرين؟
أرى أن غياب التغيير في السلوك واضح، بل المكتسبات المعرفية والمفردات اللفظية التي اكتسبها من الدورات تطير في المجهول مع مرور الوقت.
في الختام أؤكد أننا في حاجة إلى تغيير أنماطنا السلوكية السلبية من خلال سلوك وبرامج وعمل مؤسسي وأن ندع الكلام ما أمكن، ونبدله بالفعل خاصة مع كثرة توفر أدوات النجاح ومنها المتخصصون الشرعيون والمتخصصون في علم النفس والاجتماع والتربية وكثرة المربين. فالمثقفون والأكاديميون عددهم يتضاعف وبإمكانهم تغيير المجتمع إيجابياً متى عملوا من خلال تفعيل العمل المؤسسي في الجانب الذي يتقنون ويرون خلل المجتمع فيه، ولم يكتفوا بالطرح الكلامي كعادتهم!!
قبل أن أودعكم ألفت نظركم إلى تفجيرات الرياض، وبالذات إلى الطرح الكلامي الذي انبثق تحليلاً عنها من كل مجالات الحياة، ومن كل المتخصصين ينظرون في علاج التطرف والإرهاب ومن يحملون فكر التكفير..
أين هي الحلول العملية من المربين.. من علماء الاجتماع و...؟
مؤسف أن أقول لم أر شيئاً منهم.. وكلامهم طار به الهواء!!
وكان الدور فقط وقائياً من قبل الجهات الأمنية
وتقبلوا خالص تحياتي.
|