Wednesday 13th October,200411703العددالاربعاء 29 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

«الحلقة الثانية» «الحلقة الثانية»
مع الدكتور غازي في أبيات قصيد
د. عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر

وخيبة الأمل تأتي في صورة أخرى في (الصحوة)
(ص:15)، وقد سبح في خيال ظن أنه صادق، ثم أفاق من سهاده، فلم يجد في يديه مما ظن أنه يملؤهما إلا الهواء:


وكان الحلمٌ.. ثم أفقت منه
وقد ضَمَّتْ يداي على الهواء

***
وخيبة الأمل تؤكدها التجربة مع الأنام، وقد تبينها في إعراض الخدين، وأنها أقسى من ظلم الأعداء، (تجارب) (ص:50):


وجَرّبْتُ الأنام.. فكان أقسى
من الأعداء.. إعراض الخدينِ

وكلما أحسّ بدفء عاطفة يراه في باقة الورود وفي ضياء الإبداع وفي هذا مغالاة لا يكمل الشعر إلا بها، وقد اكتشف الشعراء مدى تأثير المغالاة منذ العصر الجاهلي.
***
وشيء من خيبة الأمل يجدها فيمن ظنه ملاكا، رقيق البسمة، ولكن حظه منه، في الواقع، نصل سكين غرسه هذا الملاك في صدر فرحه، ويقول، ومطية التضاد (المقابلة) مركبه: (الملاك القاتل)، (ص:60):


ويا ملاكا.. ظننت الرفق بسمته
انظر لنصلك المزروع في كبدي

وهو مغرم بالتضاد (أو المقابلة) كما تسمى في البلاغة يرسم به صورًا يدخل فيها إلى حقيقة مسلم بها، فهو يخاف من ظاهر شيء، وقد يكون داخل غمامته السوداء ضياء ساطع، يفرحه بعد أن أرعبه، ويبهجه بعد أن أفزعه، فيقول في: (تحرير)، (ص:56)، والمعنى مطروق، ولكن التضاد في هذا البيت ألبسه جلباب الإبداع:


ويرعبني المصير.. ورب حتف
يروع.. وفيه تحرير السجين

***
ويساهم التضاد (المقابلة) بين الحب والحقد في رسم صورة صادقة لعدم اجتماع الحب والحسد في إناء واحد.
والحب خدين لا يفارق الشاعر، ولعل (الحاء) و(الباء) قد حفرت في ذهنه، وأصبحت عنصرًا رئيسًا في دمه، فإن لم تبرز في المقدمة، فهي صورة خلفية لكثير مما يقول، ففي إحدى الصور التي ينقشها الحب يقول: (عن الحب) (ص:58):


من جرّب الحب لم يقدر على حسد
من عانق الحُبّ.. لم يحقد على أحد

***
وتَعَلُّق الشاعر بالحب يفتح نافذة على قلبه، وإضاءة الحب في القلب تتكرر في شعره بصور مختلفة، يأتي بها منفردة، ويأتي بها مقارنة مع ضدها، ويكشف ما يضمره للناس في (هدية)، (ص:63)، ويلتفت باحثاً عن الرداء الذي يلبسه المعنى الذي يجول في ذهنه، فيقول:


من ظلامي العميق أهديهم النور..
ولحني أصوغه من بُكائي

في هذا البيت اشترك ركنان من الأركان التي يتسم بها شعره عند التضاد، فهو يصوغ من الظلام النور، ومن البكاء اللحن الشجي، وهو بهذا يجني من الشوك الورود:
***
وحبه لغيره يتبين في: (طبيب يداوي الناس) (ص:59)، وقد انتثرت الجراح في جسمه، ومع هذا فهو يداوي من به علة، وظاهره بهج وباطنه حزين:


وأنا العليلُ.. أحسُّ أدواء الورى
وأنا المرقّط بالجراح.. أضمَّد

لا يقوم بهذا إلا محب للعليل، ويسعى في برئه، والطبيب المداوي يئن تحت وطأة آلام الجراح.
وليعبر عن صورة في ذهنه، فلا يجد وسيلة خيرًا من صور التضاد، بين الجوع، وهو ما يلازم الفقير، ومناجم الذهب، وهي من سمات الغنى:
(مناجم الروح) (ص:57). ويأتي بهذا المعنى في صورة سؤال استغراب:


أيشعرُ بالجوعِ من رُوحُه
مناجمُ للذهب الأصفرِ؟

***
ويشدد التضاد منتصرًا في (حواء)، (ص:56). وهذا محيط وردي، والشاعر لا يقاوم ابتسام الورود، ويقابله بالإبداع:


إذا ضحكتْ سمعتُ اللحن يشدو
وإن غضبت سمعتُ زئير نمرة
وإن شاءت هوت بي في جحيم
وإن شاءت رمتني في المجرة

ضحك يقابله غضب، واللحن الشادي يقابله زئير النمور، وقاع جحيم يقابله ارتفاع إلى المجرة.
***
ويكاد لا يمر بيت أو بيتان إلا وبعدهما بيت فيه التضاد، ولعل الدكتور غازي حمد هذه المطية، تسير به رهوًا في صحراء مجدبة أحيانا، وفي روض أخضر أحيانا أخرى، وفي الروض نجد صور الحب، والإشعاع، والفجر، والضياء، والعطف، والحنان، وفي الصحراء نجد الفراق، والنكوص، والغدر، وخيانة الحبيب، وقسوته، وكذلك نجد ما في السياسة من مضحكات.
والحب معه دائماً، راضيًا عنه، أو عاتبًا عليه، نظرته إليه مرة باسمًا، وأخرى عابسًا، له معه رضى، وله معه سخط.
والمعنى حلوة عادة، لأنها تجعل صاحبها يسبح في خيال مبهج، مليء باللذائذ والمتع، ولكن روح الحزن تقبض روح الشاعر بيد قوية، فتجعل أمنيته ترخي شراعها فوق بحر يؤدي به إلى ظلمة تحيط ببهجة المنى، والظلمة هي الغرق، الذي قضى على الشراع الجميل، المفرد ليغازل الريح الرخاء الناسجة بردها على وجه البحر الصافي. (الغريق) (ص:13)


آه لو يدري شراع مبحر
في المنى.. ما طافَ في بالِ الغريق

***
والمرأة، وهي سلة الحب، تريد أن تذوق طعم الحنين، وما دام الأمر أمر طعم، ففي الطعم لذة، واللهب هو الطريق إليها، فالعنصران اللذان لا يفارقان الشاعر اجتمعا في هذا البيت: طعم يراد، ولكن الحصول عليه عن طريق ما يعكره: (الطعم) ص (ص:14):


تريدين طعم حنيني إليك
إذاً لامسي بيديك اللهب

ويأتي بيت فيه روح الصحراء المجدبة، لأن الصورة قاتمة، وفيه (أنا) و(أنت)، وأي قحط لا يكون بين القبور؟! والشاعر يرسم صورة حسية واضحة، فعمره كأنه عقد انفرطت حباته، فانحنى يجمع شتاتها.
والظلمة، وهي صفة القبور، لا تبقى في ذهنه، وإنما يبدد ظلمتها بِذُبالة، زاد من ضعفها أنها تطل من خلف الضباب. إذاً كان بقاؤه هناك عذابًا جاءه من نثار العمر، وهو الآن يحاول أن يجمع ما فرط منه، ولكن تعبه لم ينته بعد، فالمقبل منه فيه مكابدة: (بين القبور) (ص:14):


أنا بين القبور ألمّ عمري
وأنتَ ذبالة خلف الضباب
فرغتُ من العذاب.. وعدت وحدي
أكابد ما تبقى من عذابي

ويبدو أن زائر المقبرة لازمته الوحشة، فخلافاً لما اعتمده الشاعر في الكتاب من الاقتصار على بيت واحد، ضم إليه آخر، ليؤنس وحشة البيت الأول! أو على الأصح يريه أنه (ليس في الهم وحده).
***
وتبقى قاعدة التضاد معه وهو يفكر في الموت: صحراء أخرى مجدبة في تفكيره، وهي مجدبة لأن فيها حصد أرواح، والتضاد جاء في ثوب تساؤل واستغراب، فنحن نخاف الموت، ومع هذا نمشي له طائعين عن طريق مدح المطاعنين بأحلى الشعر المشجع على حصد الأرواح. وفي هذا البيت من أسلوب غازي، وهو وضع الاستغراب داخل رداء يختاره، يضمن أن تكون الصورة واضحة، والفكرة مقنعة، والعظة مؤثرة. يقول في (مفارقة) (ص:15):


نخاف لقيا الموت.. لكننا
نقول أحلى شعرنا في الطعان

***
وفي البيت الآتي (عن الذهب) (ص:15)، يطل (صاحبنا) وملازمنا (التضاد) في البكاء وضده الشدو، والهم وخلافه الطرب، وإن تسامحنا في الوصف قلنا: الرغبة وضدها الأمر.
والبيت معبر في تركيبه، وأسلوبه، ومعناه، لولا عنوانه (عن الذهب)، الذي يجاذبنا ليصرف الذهن إلى أن الحديث عن الذهب، المعدن الثمين المعروف، وفي الذهب الصفات التي رسم صورتها الشاعر. أما إذا تناسينا العنوان، وعلقنا المعنى على مشجب السياسة، فهي يعني الحاكم المتسلط، فهو الذي إذا أمر الناس بالبكاء بكوا، وإذا أمرهم أن يغنوا غنوا، وهل لهم غير ذلك، فهو الذي سبب الهم، وهو الذي حرك الطرب.
وأما مشجب الحب، وهو قريب من غازي، والحبيب يتسلط على القلوب، فإذا أمر بالشيء أطيع، وإذا أبدى الرغبة في ضده، فيسارع إلى تلبية رغبته، هل أراد غازي حيرتنا، ليبقي له وحده العلم بالمقصود، ما عرفنا شاعرنا يحب الأثرة، ولابد أنه رأي أن هذا في مصلحتنا!


نبكي إذا شئت.. نشدو حين تأمرنا
ففيك وحدك، كان الهم والطرب

***
ألم أقل: إنه سريع إلى رسم صورة عن طريق لون (التضاد)، كأن في التضاد (مغناطيساً) لا يستطيع البعد عنه، يجذبه رغماً عنه، وأليس في شعره روض مزهر، وصحراء قاحلة؟ لقد رفع القناع، فأبان أن حبه لهذا الأسلوب مكين، وقد اتضح هذا في (بطاقة تعريف) (ص:15) غير مهمل التأنيث، وفيه جاذبية له:


أيا ابنة كل اخضرار المروج
أنا ابن الجفاف.. وما استولدا

لعل الصبّار والعرفج والحرمل أوحت له بالجفاف.
وتحلو له الصحراء، فإن لم يأت باسمها صريحاً جاء بمرادف، ومن مستلزمات الصحراء الظمأ، ومن لم يتصور بشاعة الظمأ، والهلكة به، فليتصور أشباح الجحيم: (العمر: تعريف) (ص:16):


وهنا عمري.. ثمالات صِبا
وظما قفر.. وأشباح جحيم

***
أما البيت في (موت الحراب) (ص:16):


كيف أبكيك.. والبكاءُ حرامٌ
حين تهوي غب النضال الحراب؟

فقد سبقته إلى هذه الصورة أسماء بنت أبي بكر، أم عبدالله بن الزبير - رضي الله عنهم جميعًا - عندما قالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجّل، والشاعر في بيته هذا خاط قماش كلمتها جلبابًا زاهيًا.
***
والموت حق، والشاعر مؤمن بهذا، وزار كما رأينا قبور الموتى، وبكى، وبكيتُ معه، أخاه نبيلاً - رحمه الله - لأني أعرفه، وأحبه. وبكاء الشاعر جاء تحت عنوان: (نبيل) (ص:40):


مررتَ بهذي الأرض حلمًا مسافرًا
وخلَّفتَها.. أندى.. وأحلى.. وأبدعا

لو وضع الشاعر عنوان هذا البيت: (الطيف) لما أبعد عن وصف (نبيل)، ومروره بهذه الحياة، طائرًا، فاردًا الجناح، لم يطوه إلى أن استقر به المقام، لا على غصنٍ عالٍ، وإنما في ممر، نرجو أن يكون موصلاً إلى جنات النعيم.
لا شك أن من بين ذكريات الشاعر، المتغلغلة في رحه، أخاه (نبيلا)، وله نصيب في (هزيمة الموت) (ص:17):


يأخذ الموت كل شي.. ويعيا
بالغوالي.. من ذكرياتي الغوالي

لا ننسى التضاد هنا، فالأخذ والعجز عن الأخذ ضدان.
***
ولا ينصرف ذهننا عن (نبيل) عندما نقرأ البيت الذي عنوانه: (أخي) (ص:54)، فنبيل:


كان ملء البر والبحر أخي
ومضى.. لم تبق إلا الذكريات

إن نبيلا يعيش في دم غازي، ذكرى باقية، تطل كلما رأى رقيقا، وكلما سمع همسا رفيقا،


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved