Wednesday 13th October,200411703العددالاربعاء 29 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

يارا يارا
الكرتون الأخضر
عبد الله بن بخيت

حدثني أحد الأصدقاء نقلاً عن أحد الأدباء العرب بالقصة التالية: كنت في مستهل زيارة لليبيا، وأثناء انتظاري في صالة الفندق الذي سوف أسكن فيه، وجدت كتاباً صغيراً أخضر اللون، منثوراً على الطاولة، فتناولت نسخة منه، وأخذت أقلِّبه، فعرفت أنه الكتاب الأخضر للقذافي.. انتهيت من قراءته قبل أن أتم إجراءات السكن في الفندق، فتركته على الطاولة، وحملت حقائبي، وصعدت إلى الغرفة.. وقبل أن أرتِّب أشيائي، وآخذ حماماً، سمعت قرعاً على الباب، ففتحت وإذا أمامي أحد العاملين في الفندق يحمل كرتوناً ضخماً، وطلب أن يُدخله، وقبل أن أسأل عما فيه.. قال هذا الكرتون يحتوي على نسخ من الكتاب الأخضر هدية من إدارة الفندق.. شكرته على هذه الهدية القيمة، ولكني قلت يكفي نسخة واحدة.. فقال: هذه هدية لك ولكل الأعزاء عليك.. لم أدخل معه في جدل.. سمحت له أن يضع الكرتون في الغرفة.. وبعد عدة أيام انتهت زيارتي إلى طرابلس، حزمت حقائبي، وخرجت تاركاً الكرتون في الغرفة، لعل أصحابه يهدونه إلى شخص آخر ينتفع به أكثر مني.. نزلت في بهو الفندق في انتظار تاكسي يقلني إلى المطار، وبعد عشر دقائق تقريباً وصل التاكسي، وفجأة إذا بأحد نُدُل الفندق يقف فوق رأسي، يحمل معه الكرتون ووضعه في التاكسي قبل أن أضع حقيبتي، فسألته ما هذا ؟ فقال الظاهر أنك نسيت تأخذ الهدية معك.. لم أشأ أن أقول له إني تركته عمداً.. شكرته بكل حرارة، وقد بيتّ النية أن أتركه في التاكسي، وبعد حوالي نصف ساعة وصلت إلى المطار.. سحبت حقيبتي وركضت تاركاً الكرتون في التاكسي.. وقفت عند كاونتر تشييك العفش، وقبل أن أضع حقيبتي على الميزان، فإذا بصاحب التاكسي يهرع إليَّ حاملاً على كتفه الكرتون.. وقبل أن يذكّرني بادرت قائلاً: شكراً يا أخي أخذته منه، وسلّمته إلى موظف الخطوط مع شنطتي.. ركبت الطائرة ونسيت موضوع الكرتون وبعد ساعة ونصف الساعة وصلت الطائرة إلى بنغازي.. سحبت شنطتي وتركت الكرتون على السير وخرجت من المطار، وأثناء وقوفي في الطابور أنتظر تاكسي يقلني إلى الفندق.. فجأة إذا بأحد عمال المطار يقف خلفي وهو يقول: أخي يظهر أنك نسيت الكرتون.. شكرته بحرارة ولعنت الذاكرة.. وطلبت منه أن يضعه مع شنطتي، بل قبل شنطتي في الصندوق الخلفي للسيارة، وعندما وصلت إلى الفندق وقف صاحب التاكسي.. نزلت من التاكسي، وسحبت شنطتي من صندوق السيارة، وتركت الكرتون فيها.. كنت أظن أن سائق التاكسي لم ينتبه للكرتون، وقلت في نفسي: لقد حانت ساعة الخلاص.. ركضت إلى صالة الفندق وشاهدت نسخاً من الكتاب الأخضر متناثرة على الطاولة، فقررت عدم لمس أي منها مهما كان السبب، بل ابتعدت عن الطاولة حتى لا يظن أحد أني أحدّق في الكتاب الأخضر، وبعد إجراءات التسجيل في الفندق أخذت المفتاح، وفي اللحظة التي كنت أصعد فيها المصعد شاهدت صاحب التاكسي يحمل الكرتون، ويركض نحوي فعرفت أن خطتي بتركه في التاكسي باءت بالفشل، فشكرته على أمانته وأخذت الكرتون إلى الغرفة.
أمضيت في بنغازي ثلاثة أيام حافلة، وعندما حانت ساعة الرحيل، وبدأت أنظم شنطتي وحاجياتي، نظرت في الكرتون وبدأت أتدارس الأمر، وتساءلت هل يمكن تفاديه؟.. قررت تركه في الغرفة على أمل أن أصحاب هذا الفندق لا يعرفون علاقتي به.. نزلت في صالة الفندق بشنطتي فقط، وجلست في انتظار التاكسي.. طبعاً بعيداً عن أي طاولة منثور عليها الكتاب الأخضر.. نسيت الموضوع، ورحت أفكر في رحلتي إلى طرابلس، ومنها إلى لندن، وأستمتع بذكرى الكرم الليبي.. دقائق وإذا بي أسمع صوت النادل يقول لي: سيدي.. التاكسي جاهز.. نهضت وتحركت دون ألتفت يميناً أو شمالاً خشية أن يلاحظ أي أحد أني أسير بدون الكرتون الأخضر.. فتح النادل شنطة السيارة ليضع فيها شنطتي وأغلقها بابتسامة حبيبة كريمة وقال: رحلة سعيدة يا سيدي، ثم أردف: الظاهر أنك يا سيدي نسيت الكرتون.. اطمئن، لقد أحضرناه.. قلت: شكراً الله يذكّرك الشهادة، وقبل أن أكمل عبارات الشكر والعرفان قال: لقد سبقك إلى التاكسي.. فعرفت أن مصيري ارتبط بهذا الكرتون فأجزلت له الشكر.. وعندما وصلنا المطار التفت إليَّ صاحب التاكسي، حتى قبل أن ينزل من السيارة، وقلت له: بالله عليك لا تنس الكرتون.. كل شيء إلا الكرتون الأخضر.. صرت أحرص منهم على الكرتون.. عندما جاء عمال المطار لمساعدتي على حمل العفش نهرتهم وطلبت منهم حمل حقيبتي فقط، أما الكرتون فلن أسمح لأحد أن يحمله غيري.. وبالفعل حملته على كتفي وسلَّمته شخصياً لموظف العفش.. ركبت الطائرة التي سوف تقلني إلى لندن، وليس في تفكيري شيء غير الكرتون.. إن شاء الله يكون في مكان مريح، فأنا لا أثق في عمال العفش.. وأخيراً وصل معي إلى لندن.. شاهدته على السير، شعرت بالحزن، ترددت قبل أن أتركه على السير وأرحل.. في التاكسي تذكّرت أن الكرتون سيلف ويلف.. تساءلت هل تستحق النظرية الثالثة هذا المصير؟.. صحيح نحن شعوب العالم الثالث قليلو مروة.

فاكس 4702164


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved