من عجائب البشر في هذه الحياة ما يجري فيها من أقوالٍ وأعمالٍ لبعض من سيطر الوهم على نفوسهم، فانقلبت حقائق بعض الأشياء عندهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا.
فذلك رجل وذو ثقافة وأدب لا يحمل معه ساعة يعرف بها الأوقات، وحينما رآه صاحب له كثير السؤال عن الوقت، وعن الساعة كم هي في لقاء عام، سأله: يبدو أنك قد نسيت أن تحمل معك ساعتك؟، فقال: كلاَّ، بل أنا أتعمد عدم حمل الساعة معي، أتظن أن إيقاع مرور الزمن هيِّن على أديب مرهف الحسّ - مثلي - إلى هذه الدرجة؟ ونظر إليه صاحبه نظرة استغراب قائلاً: هل أنت جادٌ فيما تقول؟، قال له مغضباً: ومتى كنت هازلاً في يوم واحدٍ من حياتي؟ إنَّ الإنسان المبدع لابد أن يتناسى إيقاع الزمن، ومرور الأيام، قال صاحبه هامساً: اسأل الله لك العافية.
وذلك رجلٌ عاقلٌ معروفٌ بالرزانة ينفث دخان سيجارته إلى الأعلى بصورة لافتة للنظر، وحينما قال له رجل جالس بجواره: لماذا تنفث دخان سيجارتك بهذه الصورة، ألا ترى بعض الجالسين كيف يضحكون ساخرين؟ قال وهو مغمض العينين: إنني أنفث دخانها في وجه هذا العصر الذي تسلَّط فيه القوي على الضعيف، أم أنك تريد أن نشعل البخور لهذا العالم الحيران؟.
وذلك رجلٌ ستينيٌّ من رجال التعليم القدماء يتحدَّث في كل مجلس عن تلك البطولات التي ينتصر فيها دائماً، ويقضي فيها معظم وقته بعد أن تقاعد من عمله فأصبح فارغاً، فهو يهزم كلَّ يوم أبطالاً مشاهير في أنحاء العالم، فقد انتصر على عدد من الأبطال في باريس وفي لندن، وفي الرباط، والقاهرة، وغيرها من العواصم العربية والعالمية، إنه يشعر دائماً بنشوة النصر، ويقضي في مبارزاته سحابة نهاره، وهزيعاً من ليله، ولا ينام إلا على أصداء فوزه المستمر، أي بطولات يا ترى؟
إنها بطولات لعبة (البلوت) عَبْر مواقع الإنترنت، وحينما قال له ناصحٌ: ألا ترى أن قضاء وقت أمثالك في القراءة والاطلاع، والذكر والتسبيح، والعلاقات الاجتماعية المفيدة خيرٌ لكل من هذه البطولات؟ غضب وقال: ما أوقعنا في مشكلة التطرُّف إلا مثل هذا الكلام الذي تقولون، تريدون أن يتحوَّل الإنسان إلى راهب.
وتلك امرأة لا تمل من زيارة كل سوقٍ جديد، وكل محل تجاري يعلن عن تخفيضات ولا يكاد يمر بها يوم حتى تعود إلى صاحباتها بأخبار جديدة عن زيارة جديدة لسوق من الأسواق وحينما نصحتها صاحبتها قالت: أليس هذا أفضل من مجالس الغيبة والنميمة؟.
وذلك رجل استضيف في برنامج تلفازي، فأصبح مشغولاً بالحديث عنه في كل مجلس يطرح على الناس قصة إجراء ذلك اللقاء، وما جرى فيه من حوار جميل، ثم يقدِّم لمن يتحدَّث إليه شريط فيديو مسجِّلاً عليه ذلك البرنامج، قائلاً: سترى فيه ما ينفعك وحينما نصحه صاحبه بترك هذه الطريقة التي يستهجنها الناس، غضب وقال معاتباً: ما كنت أتوقع أن تتضايق من نجاح صاحبك- ربما ظن أن صاحبه قد حسده -!!
وتلك امرأة لا تكاد تلقي من يدها جهاز تشغيل القنوات الفضائية، تتنقل بين عشرات القنوات كل يوم بطريقة أصبحت كالإدمان، وحينما نصحتها صديقتها بالإقلاع عن هذه العادة، قالت: من حقي أن أتابع الأخبار، وأن أثقِّف نفسي، فلما قالت صديقتها: ولكنك مشغولة بما ليس فيه فائدة، فأنا أعرف الناس بك، قالت: أليس هذا أفضل من كثرة خروجي من المنزل؟.
هكذا يصيب الوهم بعض الناس، فيظنون أنهم يفعلون خيراً، ويقولون صواباً، ويسوِّغون لأنفسهم أقوالاً وأفعالاً لو حكَّموا فيها عقولهم لرأوا أنهم بعيدون عن الصواب فيها.
إن التوازن في الحياة هو الطريق الصحيح الذي يوصِّل إلى حياة مستقرة جادَّة متكاملة الجوانب، تتحقق للإنسان فيها متعة الدين والدنيا، بعيداً عن المخالفات والأوهام.
إشارة:
ربِّ عوناً فإننا سوف نبقى
ننقض العمر جَيْئَةً وذهابا |
|