أشير في آخر الحلقة السابقة إلى أن فرنسا بدأت تنافس بريطانيا في إظهار التأييد للصهاينة في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وأن قادة بريطانيا - بعد فشل حملة نابليون أمام أسوار عكا - راحوا يكثَّفون جهوهم الرامية إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وكان في طليعة تلك الجهود إنشاء اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطانية قنصلية في القدس عام 1838م استجابة لإلحاح ابن أخيه، اللورد أنطوني كوبر، أحد اركان (جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود) الذي أصدر عام 1839م، بياناً فسَّر فيه نصوص التوراة على المجيء الثاني للمسيح سيتحقَّق بإعادة توطين اليهود في فلسطين وانتزاعها من سكانها، وقد عينت بريطانيا صديقه وليم يونج أول نائب لقنصلها في القدس.
وأرسل هذا الأخير تقريراً عن اليهود في فلسطين إلى وزير الخارجية ذكر فيه أن عددهم 9690، وفي العام نفسه بعث وزير البحرية البريطانية مذكرة إلى بالمرستون يدعو فيها إلى الاقتداء بالامبراطور الفارسي قورش، وإعادة اليهود إلى فلسطين.
حينذاك كانت قد برزت قوة إسلامية جديدة في المنطقة مركزها مصر، التي كان حاكمها محمد علي باشا، قد تمكن من توسيع نفوذه في بلاد الشام والجزيرة العربية، وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر في ذلك الحاكم فإن صعود أيِّ قوة إسلامية كان أمراً مرفوضاً من قبل بريطانيا ذات النفوذ في أماكن متعدَّدة من العالم الإسلامي حينذاك.
لهذا سارعت إلى احتلال عدن سنة 1839م، وتزعَّمت مؤتمر لندن سنة 1840م، الذي كان من قراراته وجوب انسحاب قوات محمد علي باشا من الشام والجزيرة العربية، ووقوف بريطانيا ضد أيَّ قوة إسلامية صاعدة تكرَّر مرَّات ومرَّات، حدث هذا - مثلاً - في إيران مصدَّق، ثم حدث عام 1956م عندما تآمرت مع فرنسا والكيان الصهيوني في العدوان الثلاثي على مصر، التي كانت قيادتها تسير نحو الصعود حينذاك بعد مؤتمر باندونج لدول عدم الانحياز الذي عقد سنة 1955م.
وفي عام 1841م كتب ضابط الأركان البريطاني في المنطقة العربية، تشارلز هنري تشرشل، جد ونستون تشرشل رئيس حكومة بريطانيا المشهور خلال الحرب العالمية الثانية إلى رئيس مجلس الممثلين لليهود في لندن يخبره بأنه لا يستطيع إخفاء رغبته الجامحة في أن يحقق الشعب اليهودي وجوده مرة أخرى كشعب بمساعدة القوى الأوربية، وأن استعادتهم وجودهم في فلسطين أمر ميسور إذا توافر عاملان: الأول أن يتولَّوا أنفسهم، وبالإجماع طرح موضوع العودة على الصعيد العالمي، والثاني أن تبادر القوى الأوربية بدعمهم تحقيقاً لهذا الهدف، وتعدّ تلك الرسالة أول تحريض سياسي للعمل على تجميع القوى الأوربية وراء مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين.
ومنعا لتحالف اليهود مع أيٍّ من الدول الأوربية الأخرى وضعت بريطانيا مشروعاً باسم اللورد سافتسبري عام 1842هم سمّته مشروع (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وتبنَّى المشروع وزير خارجيتها، اللورد بالمرستون.
وازداد نشاط أنصار فكرة توطين اليهود في فلسطين بوزارة الخارجية؛ محاولين الربط الاستراتيجي بين إقامة وطن يهودي في فلسطين والمصلحة القومية البريطانية، وفي عام 1845م أعدّ أحدهم مشروع خطة للسياسة البريطانية في المنطقة تدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين تكون في مرحلتها الأولى دولة محمية تحت الوصاية البريطانية، كما اقترح أول حاكم لمستعمرة استراليا الجنوبية إقامة مستعمرات يهودية في فلسطين بشكل تدريجي تحت الحماية البريطانية، ثم يمنح اليهود في نهاية الأمر حكماً ذاتياً تحت هذه الحماية.
ثم بدأ التمهيد الجدِّي في بريطانيا للاستيطان اليهودي في فلسطين من خلال بعثات الاستكشاف إليها؛ وهي البعثات التي موَّلها (صندوق اكتشاف فلسطين)؛ ابتداء من عام 1865م. وكان أخطر خطط تلك البعثات خطة لورانس أوليفنت، إذ اقترح في كتاب له إقامة مستوطنة يهودية على مساحة مليون ونصف المليون فدان شرق نهر الأردن لتوطين يهود روسيا ورومانيا، أما سكان فلسطين العرب فاقترح تجميعهم في منطقة خاصة كما جرى للهنود الحمر في أميركا، ولحماسته لهذا الموضوع عهد إليه رئيس وزراء بريطانيا، اللورد بيكونسفيلد، ووزير خارجيتها، اللورد سالزبري، مهمة التفاوض مع السلطان العثماني للسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين.
وكان ملحق السفارة البريطانية في النمسا القسيس هشلر، ينظم عملية تهجير أولئك اليهود إلى فلسطين، كما حدث عام 1882م عند ما نظم مؤتمر حول توطينهم فيها، وطرح في كتابه : عودة اليهود إلى فلسطين، هذا الموضوع على أساس تطبيق النبواءات الواردة في العهد القديم (التوراة).
وكان صدور ذلك الكتاب قبل عامين من صدور كتاب ثيودور هرتزل: الدولة اليهودية الذي بلور الفكر الصهيوني في العصر الحديث! وهو الفكر الذي تبناه مؤتمر بازل عام 1897م، وتقرَّر فيه إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ زاد عدد الجمعيات الصهيونية في بريطانيا من 16 إلى 39 جمعية.
وفي عام 1902م تولى اللورد آرثر بلفور رئاسة الحكومة البريطانية خلفاً لعمه اللورد سالزبري، فطرح فكرة منح اليهود أرضاً في أوغندا لإقامة دولتهم هناك، غير أن المؤتمر الصهيوني السادس الذي عقد سنة 1903م رفض ذلك، وتمسك بالمطالبة بفلسطين، فاستجاب لمطلبهم، وأعدَّ مذكرة ورد فيها قوله: (ليس في نيتنا مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين.. وسواء كانت الصهيونية على حق أو على باطل، حسنة أو سيئة فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية وآمال المستقبل. وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات السبع مئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة.. وإن من المرغوب فيه أن يكون للصهيونية في فلسطين السيادة على الطاقة المائية التي تخصها بشكل طبيعي، سواء كان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً، أو عن طريق عقد معاهدة مع سوريا التي لا تعتبر المياه المتدفقة من جبل الشيخ ذات قيمة بالنسبة لها، وللسبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن).
وفي عام 1909م موَّل الصندوق القومي اليهودي بناء مجمع سكني قرب يافا تطوَّر حتى أصبح مدينة تل أبيب، ومع بداية الحرب العالمية الأولى
سنة 1914م اجتمع حاييم وايزمان عميد الحركة الصهيونية في تلك الأيام، بآرثر بلفور ووضعا أسس التحالف الصهيوني البريطاني الذي قام على أسس في طليعتها دعم اليهود لبريطانيا مالياً في الحرب مقابل دعمها لهم لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، ونتج عن ذلك إعلانه وعده لهم، سنة 1917م، بإقامة ذلك الوطن. وكان وعده - في حقيقة الأمر - بمثابة إعطاء من لا يملك لمن هو لا يستحق.
وتحرَّك الصهاينة لتنفيذ ذلك الوعد، فترأس وايزمان لجنة وصلت إلى فلسطين عام 1918م، وفي العام نفسه أعلن الرئيس الأميركي ولسون تأييده لوعد بلفور، مع أنه اشتهر بمناداته بحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
وهذا يدل على عراقة تناقض أعمال ساسة أميركا مع ادعاءاتهم الخادعة التي كان آخرها احتلال العراق بادعاء تحريره. وفي عام 1920م أقرَّت معاهدة فرساي انتداب بريطانيا على فلسطين، فتمَّ في ظلِّ هذا الانتداب ما تمَّ من جهود بريطانية متواصلة لصهينة هذا البلد العربي المسلم.
|