يقال إن القاضي الذي كان ينظر في قضية اغتيال الكاتب المصري فرج فودة سأل الغلام المتطرف الذي كان متهماً باغتياله عن سبب الاغتيال. فأجاب: لأنه علماني!. فسأله القاضي: وماذا يعني علماني؟. فأجاب الغلام: (ماعرفش)!.
تذكرت هذه الرواية وأنا أقرأ لأحد كتابنا الإسلاميين جرأته الخطيرة. غير المبررة التي لا تعتمد على معتمد واضح وجلي، على تصنيف الناس؛ فهذا علماني خبيث, وذلك شيوعي نتن، والآخر ذيل للأجانب، والرابع من دعاة تمييع الإسلام!. بل لن أكون مبالغاً لو قلت: إن جل مؤلفات طالب العلم هذا هي مجرد (ردود)، تحمل من تسفيه الآراء، والتشهير للكتابة المغرضة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ففي قاموسه وصفات جاهزة لكل من اختلف معه، حتى وإن كانت المسألة مثار الاختلاف قضية احتمالية وليست قطعية.
وأكاد أجزم أن هذا الذي يدعي طلب العلم، يجهل كثيراً من هذه المصطلحات التي يستخدمها ومدلولاتها، التي يصنف الناس من خلالها، تماماً كما كانت حالة ذلك الغلام. وليت صاحبنا اكتفى بصب جام غضبه على كتاب بعينهم، يطرحون طرحاً قد يفهم منه أنه يتضاد مع ماهو معلوم من الدين بالضرورة. وإنما شمل حتى الكتاب الذين يصنفون على أنهم كتاب إسلاميون أيضاً. فالمعيار لديه: (الحقيقة أنا، وأنا الحقيقة) وغني عن القول إن هذه الرؤية المتحجرة التي تنفي الآخر نفياً كاملاً هي أبعد ما تكون عن الإسلام، وعن أدبيات الإسلام، وعن فقه الاختلاف، الذي لولاه لما وصل الفقه الإسلامي إلى ما وصل إليه من هذا الثراء العظيم، الذي نقرأه اليوم فنشعر كم نحن متخلفون مقارنة بأولئك الرواد الأوائل. يكفي أن تقرأ للإمام الشافعي - رحمه الله - قوله: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) لتدرك مدى التخلف المعرفي الذي يعاني منه جهابذة ملاك الحقيقة.
ونحن عندما نقرأ للمستشرقين - مثلاً - نلحظ أول ما نلحظ أنهم قبل أن يبدأوا بالكتابة عن الشرق وعلومه وتراثه، أهلوا أنفسهم - أولاً - لتعلم اللغة المشرقية للمجتمع أو للعلوم التي يرغبون أن يتخصصوا فيها، وهيأوا قدراتهم لفهم واستيعاب هذه الثقافة، وسبر أغوارها، وأبعادها التاريخية والحاضرة، وأنفقوا في سبيل ذلك من أعمارهم الأيام بل السنوات الطوال حتى تمكنوا من آليات بحوثهم. لذلك جاءت كتاباتهم - مثلاً - عن الإسلام والعرب بغض النظر عن نواياهم وأهدافهمن ومدى اختلافنا مع معظمهم كتابات عميقة ومتمكنة ومؤثرة حتى في العرب والمسلمين أنفسهم. بينما نجد أن بعضاً من (علمائنا)، أو من يصنفون كذلك، وبالذات ممن نذروا أنفسهم للتخصص في بعض القضايا الفكرية الوافدة إلينا من الغرب، لا يتورعون من اقتحام هذه الثقافات معتمدين على ترجمات أو آراء معربة، هي في غالبيتها آراء تنقصها الدفة والحيادية والعلمية؛ الأمر الذي جعلهم بالتالي ينتهون إلى نتائج مشوهة ومغلوطة. ولعل الكثير من مواقفنا تجاه بعض القضايا والمفاهيم المستجدة، القادمة إلينا من خارج منظومتنا الثقافية، نابعة من هذه الكتابات التي تنقصها العلمية بشكل حاد، التي أدت إلى أننا تلقينا الكثير من هذه المفاهيم والمصطلحات بصورة خاطئة نسبياً، وأحياناً كلياً.
والتثبت والتوقف والتبين قبل إطلاق الأحكام، وبالذات إذا كان حكماً يطال معيناً، هي واحدة من أهم أخلاقيات الإسلام، في حين أن من أهم مشاكلنا اليوم التي سعت بنا بخطوات حثيثة إلى خلط كثير من الأوراق تتمحور حول إطلاق الأحكام على الآخرين دون أي قدر من التثبت والتحقق، بل أحياناً دون فهم وإدراك ما يطرحه الآخر. وفي تقديري أننا لا يمكن أن نتخلص من (تجار الحقيقة) هؤلاء، ومصنفي الناس. وهذا الفكر الأحادي المتسلط حتى نعيد إلى واقعنا قيم ( فقه الاختلاف) الذي تلاشى أو كاد منذ عصور الانحطاط وحتى اليوم، وإذا كان علماؤنا الأوائل قد فرقوا بين الأمور التي يجوز فيها الاختلاف، وحدودها حصراً في الفروع، واستثنوا المسائل العقدية، فإن تجار الحقيقة اتسعوا بها لتشمل حتى القضايا الفقهية الدنيوية التي تعد من القضايا الفرعية التي لا علاقة لها بالعقيدة، فغنيٌ عن القول إن أغلب الخلافات التي يتم من خلالها (تنصيف) المخالف، ووصمه بأقسى النعوت، التي تمتلأ بها كتابات كثير من الغلاة, هي في الواقع خلافات فقهية فرعية محضة.
كل ما أريد أن أقوله هنا إن الخلاف سنة من سنن الله في الكون، والتعجل في تصنيف المخالف، واستخدام (مصطلحات) معينة في هذه التصنيفات، دون فهمها من جهة، ومن جهة أخرى دون أي قدر من التثبت، هي من أهم تشوهاتنا التي أنتجت الكثير من مآسينا الثقافية.
|