Friday 8th October,200411698العددالجمعة 24 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

نوازع نوازع
صورة السلوك الإنساني في شعر الشافعي
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

لن أكتب عن الإمام الشافعي الإنسان في عجالتي هذه، فلست بصدد الحديث عنه، ومهما تحدثت عن فضله وسعة علمه لما أوفيت مثله حقه، فهو إمام لا يجارى في العلم بكتاب الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة - رضي الله عنهم - وهو عالم بفنون اللغة والشعر، ويكفي ما قاله فيه ابن خلكان صاحب كتاب وفيات الأعيان.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما بت ليلة منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي أن يغفر له.
كما قال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس وقد حفظت الموطأ فقال لي أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا قارئ فقرأت عليه الموطأ حفظاً، فقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام.
رضي الله عن أئمة المسلمين وأدخلهم فسيح جناته.
يقول الشافعي:


الدهر يومان ذا أمن وذا خطر
والعيش عيشان: ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر تعلو فوقه جيف
وتستقر بأقصى قاعه الدرر
وفي السماء نجوم لا عداد لها
وليس يكسف إلا الشمس والقمر

وقد صدق الشافعي فيما قال: فالدهر لا يبقى على حال واحدة، تراه تارة يريك من البهجة والسرور ما تقر به عينك، ثم لا يلبث أن يحمل لك من الأحزان ما تنوء بحمله نفسك، فعند صفو الليالي يحدث الكدر، وقد ضرب مثلاً بذلك تلك الجيف التي تعلو عن سطح البحر بينما تستقر الدرر في قيعان البحر.
وقال الشافعي، وهو يصف أولئك الذين لا يستطيعون كتم أسرارهم، ومع ذلك فهم يلومون من يفشون السر الذي استودعوا إياه:


إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

وقال الشافعي وهو يصف بعض أهل زمانه، هاله ما رآه منهم من مكر وملق ومداهنة لا تتمشى مع مبادئه وقيمه التي استقاها من الكتب التي استوعبها نصاً ومعنى، وعلى رأس ذلك كله كتاب الله العزيز.. يقول:


لم يبق في الناس إلا المكر والملق
شوك، إذا لمسوا، زهر إذا رمقوا
فإن دعتك ضرورات لعشرتهم
فكن جحيماً لعل الشوك يحترق

ويتحدث الإمام الشافعي عن الفرق بين الحرية والاستعباد فيوجز ذلك بالفرق بين القناعة والطمع، فالطمع مذلة تجعل الطامع يريق ماء وجهه في سبيل نيل مرامه، دون التفات إلى كرامة تحفظ له انسانيته. وهنا يجعل الشافعي سر الحرية في الخلاص من ضغوط خلجات الأطماع التي جبلت عليها النفس البشرية، ويوضح ان الحرية تكمن في القناعة فهي زاد لا يفنى يقول:


العبد حر إن قنع
والحر عبد إن طمع
فاقنع ولا تطمع فلا
شيء يشين سوى الطمع

وهنا سأقف على أبيات شعرية جميلة تجسد الإنسان الذي يريده الإمام الشافعي أن يكون فهو يوصي أن يلجأ المرء إلى السخاء كوسيلة من وسائل تغطية العيوب. كما يوصي بألا يجعل للأعداء مجالاً للشماتة، ولا ريب أن ذلك لن يتأتى إلا باتباع السلوك القويم الذي يحيد بصاحبه عن طريق الضلال ويورده طريق الحق والصواب.
كما يبين ان طلب السماحة من بخيل هو محال بلا شك، فما هو إلا كطالب الماء من النار، ويوضح الشافعي ان الرزق لن يحد منه التأني ولا يزيد فيه العناء والتلهف في الطلب، فالله سبحانه هو الرزاق.
والأحزان كما يرى الشافعي لا تدوم، ولا السرور دائم أيضا كما ان الفقر والغنى كليهما ليسا مضموني الديمومة، ويلخص كل ذلك في القناعة فمن لبس القناعة وامتطاها فكأنه ومالك الدنيا سواء.. يقول:


وإن كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه - كما قيل - السخاء
ولا تر للأعادي قط دلا
فإن شماتة الأعداء بلاء
ورج السماحة من بخيل
فما في النار للظمآن ماء
ورزقك ليس ينقصه التأني
وليس يزيد في الرزق العناء
ولا حزن يدوم ولا سرور
ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
فأنت ومالك الدنيا سواء

والشافعي عندما تقرأ معظم أبياته تراه معك يعيش في مجتمعك، فهل هذا المجتمع العربي لم يتغير؟ كما أراه. يقلب صفحاته في كل يوم، ليعيد ما كان عليه فاقرؤوا شعره حيث يقول:


نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان بنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved