مشكلتنا في العالم العربي أن أبحاثنا ودراساتنا لا تُترجم إلى واقع ملموس، فما أكثر الندوات والمؤتمرات التي يُنفق عليها مبالغ طائلة ثم تتحوَّل توصياتها ومقرراتها إلى كتب ومنشورات ومواد تحريرية في ملفات الجهات المعنية، لا يستفيد منها إلا طلاب الدراسات وأساتذة الجامعات لنيل الترقيات. لا ينطبق هذا على مجال العلوم الإنسانية فحسب، بل الأخطر أنه ينطبق على العلوم التطبيقية، فأبحاث الأطباء وأساتذة العلوم الأخرى التي يحصلون بموجبها على الترقيات العلمية لا يجد أكثرها مجالاً للتطبيق، وقد يتم تطبيقها والعمل بها في جامعات ومعامل مستشفيات أجنبية، ثم تُعاد إلينا مصنَّعة، فنشتريها منهم بأموالنا وهي من ثمار عمل أبنائنا.
انتابني هذا الخاطر الحزين عندما فكَّرْتُ في الكتابة عن معاناة الأطفال في مجتمعاتنا بمناسبة انعقاد ندوة (الطفولة المبكرة: خصائصها واحتياجاتها) التي تنظمها اللجنة الوطنية للطفولة الأسبوع القادم، فقد شغلني هذا الموضوع منذ فترة حين وجدتُ زيادة الأخبار والقصص المؤلمة التي تروي ما يتعرض له الأطفال من إيذاء وتعسُّف وسوء معاملة في البيت والشارع والمدرسة، ترويه الصحف يومياً، ولو كانت هناك جهة تجمع هذه الأخبار والقصص المأساوية الواقعية التي يتعرض لها الأطفال لتكوَّنت لدينا مجلدات. وتحت هذا التأثير كتبتُ مقالاً في هذه الزاوية بعنوان (مَن يحمي الأطفال من إيذاء وتعذيب الوالدين؟!) وجَّهْتُهُ إلى جمعية حقوق الإنسان نُشر بتاريخ 8-4-1425هـ، وكتبتُ مقالاً آخر بعنوان (لماذا لم تدعم شركات الأدوية مؤتمر الإساءة للأطفال؟!) نُشر في 15-8-1425هـ.
دراسة جريئة أجراها مركز مكافحة الجريمة التابع لوزارة الداخلية جاء فيها أن 21 في المائة من الأطفال في المملكة يتعرضون للإيذاء الجسدي والنفسي بشكل دائم، و45 في المائة منهم يتعرضون للإيذاء بشكل يومي، بينما يتعرض 33 في المائة للإيذاء النفسي. كما احتل الحرمان بمختلف أنواعه نسبة 66 في المائة، وجاء ترك الطفل وحيداً مع الخادمة أو مع مَن يخاف منه في المرتبة الأخيرة.
نحن بحاجة إلى حلول عملية تخرج بها الندوات والمؤتمرات بالتعاون مع الجهات المختصة بحقوق الطفل وحقوق الإنسان؛ لأن الطفل هو اللبنة الأولى لصناعة إنسان سويٍّ. إن قصص الأطفال الذين يُعذَّبون على أيدي أقرب الناس إليهم تتكرر كل يوم في الصحف والمجلات، ولا مغيث. اقشعرَّ بدني عندما سمعتُ قصة الأم المُطلَّقة التي تُعذِّب بالنار طفلتها ابنة الخامسة، لا لشيء إلا أن البنت تشبه أباها. واهتز المجتمع لقصة الأب الذي ضرب ابنه حتى الموت، وهناك الأب الذي يضرب أطفاله ضرباً مبرحاً لا يحدث إلاَّ في زنزانات التعذيب، فيسمع كل الجيران صراخ هؤلاء الأبرياء، فلا يستطيع أحد أن يتدخَّل، وإن حاول أحد كانت الإجابة: أنا أبوهم، وأنا حرٌّ فيهم. فهل صحيح أنه حرٌّ فيهم؟!
ولدينا الأمهات اللاتي يتزوجن فيرمين أطفالهن في بيوت خالية من الحنان، فيتعرضون للإيذاء والاغتصاب، ناهيك عن أطفال وأبناء السجناء والأيتام المشردين، الذين لا مأوى ولا راعي تربوياً لهم، وقصصهم يَدْمَى لها قلب كل إنسان يعرف معنى الحنان.
ما لم يكن هناك تنسيق بين وزارة الشؤون الاجتماعية ولجنة الأسرة بجمعية حقوق الإنسان واللجنة الوطنية للطفولة وكل جهة معنية بشأن الطفولة والأطفال، ما لم يكن هناك تنسيق بين هذه الجهات جميعاً لوَضْع الحلول والمقترحات والتوصيات موضع التنفيذ، وحماية الأطفال بالفعل لا بالقول من كافة أنواع الإيذاء التي يتعرضون لها حتى من أقرب الناس إليهم، والقيام بعملية توعية في المجتمع بكافة الوسائل بالمفاهيم الصحيحة للتربية، وتكون هناك جهة تستقبل البلاغات عن الأطفال الذين يتعرَّضون لكل هذه الانتهاكات، فإن توصيات الندوات والمؤتمرات ستظل حبراً على ورق متداول بين الباحثين والدارسين لا يفيد منه المجتمع شيئاً.
إن هناك دوراً مميزاً للَّجنة الوطنية للطفولة يشهد له الجميع، وآخر تؤديه وزارة الشؤون الاجتماعية وجهات أخرى لرعاية الأيتام واللقطاء وغيرهم من الفئات التي لا راعي لها، لكننا بحاجة أيضاً إلى وضع آليات لأطفال يعيشون مع مَن يعولهم، لكنهم يتعرضون للإيذاء في بيوتهم أكثر من المشرَّدين والأيتام، وفي ظل رعاية أبوية أو أسرية. والأمل معقود على توصيات ندوة الطفولة المبكرة، وعلى المخلصين رجالاً ونساءً من أبناء هذا الوطن الذين جنَّدوا أنفسهم للعطاء الإنساني في صمتٍ تاركين أعمالهم تتحدث عنهم، وفي ظلال دولة لا تألو جهداً في خدمة مواطنيها وتوفير أسباب العيش الكريم والحياة الاجتماعية المستقرة لمواطنيها مهما كلَّفها ذلك من ثمن، وذلك فضل الله يؤتيه مَنْ يشاء.
|