ذكر البلاذري في أنساب الأشراف بسنده عن أبي عامر الهوزني، قال حججنا مع معاوية رضي الله عنه، فلما قدمنا مكة، أخبر برجل يقص على أهل مكة، وكان مولى لبني مخزوم، فقال له معاوية: أأمرت بالقصص؟ قال: لا. قال فما حملك على أن تقص بغير إذن. قال: إنما ننشر علماً علمناه الله، قال معاوية: لو كنت تقدمت إليك لقطعت منك طابقاً... ومنعه من القصص، مما يدل على أن السلطان في الإسلام يملك وحده تنظيم المؤسسات الشرعية فيما هو تحت ولايته حتى لا تكون فتنة وفوضى، وهذا القاص الممنوع كان في القرن الأول الهجري، قريب العهد بعصر النبوة والصحابة ومع ذلك خشي ولي الأمر (معاوية) منه أن يلبس على العامة في أمور دينهم، لأن الحبل لو ترك على الغارب دون تنظيم لما ضبط المسار، فما بالك برعاع وصبية يروق لهم ثقافة السب والشتم والنقد غير المنضبط شرعاً حتى أصبح البحث عمن ينتهج هذا مطلباً في ظل قلة علمه وحركيته، فأفتى وهو ليس أهلاً للفتيا، واجتهد وهو ليس أهلاً للاجتهاد في قضايا يتحرج منها كبار العلماء، ولذلك نرى كثيراً من المراجعات والتنصل من تلك الفتاوى حينما يناقش هؤلاء ويوقفون على الأدلة وتنزيلها على الواقع تنزيلاً يتفق مع طريقة السلف الصالح في الفتن والرزايا، ولكن بعد ماذا؟
بعد أن استحلت الدماء المعصومة، وانتهكت الأعراض البريئة، وعاثت تلك الفتاوى الحركية بمصالح الأمة العظمى، فأدخلتها في صراعات دولية ووصايات عالمية، وأذكر في هذا السياق مثالاً عرضته قناة فضائية قبل أيام، فقد أقدمت جماعة التكفير والهجرة على تكفير الرئيس المصري السابق أنور السادات، وتعرض بناء على ذلك لعملية اغتيال غاشمة دون تفكير بعواقب ذلك، وبعد عشرين سنة تتبرأ الجماعة من عدوانها وتراجعت عن خطئها ولم تكتف بذلك، بل أعلنت أنه شهيد يستحق الجنة، سبحان الله العظيم.. ما هذه الجرأة على الدماء وما هذا العبث بمقاصد الشريعة، وما هذا التناقض الساذج.
علماً أن مبدأ التوبة والمراجعة مطلب شرعي وفعل محمود من باب تدارك الأخطاء، وتصحيح المسار، والنجاة بالبقية الباقية من الأفراد والمجتمع من الكارثة، ولكن من أجاز لأولئك الفتوى والاجتهاد، ومن المسؤول عن سفك تلك الدماء وخراب تلك الممتلكات العامة في صورة تؤكد سهولة هذا العبث وقبوله في حق هذه الأمة من قبل صغار طلبة العلم والدعاة، ثم بعد أن يفعل بها ما يفعله يبرر لخطئه بأنه اجتهد وأخطأ... صدقاً لو تعطلت سيارة أحدنا وذهب بها إلى مهندس يصلح عطلها، ولكن ذلك المهندس أحدث فيها عطلاً أكبر فهل يغفر له ذلك الخطأ بحجة الاجتهاد؟ أم أنه سيشكوه لأقرب مركز أمني يطالبه بإصلاح الفساد الذي سببه وتعويض مادي ومعنوي، هذا إذا لم يتطور الأمر إلى تشابك وصراع... ولو مرض أحدنا وذهب إلى الطبيب وقرر أن يجري له عملية استئصال للزائدة الدودية وبدلاً من استئصالها استأصل الكلية اليمنى فهل سيتركه ويغفر له ذلك الخطأ بحجة أنه اجتهد وأخطأ أم سيرفع عليه قضايا يطالبه فيها بتعويض عن ذلك الضرر الصحي؟، فلماذا نحرص على أمور دنيانا ونتساهل في أمور ديننا وهي أهم وأولى، ولا زلنا نسمع كثيراً من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد دون معرفة من له حق الاجتهاد، ومن تتوافر فيه شروط المجتهد، بل إن تعزيز من يتجاوز في ذلك وعقابه مطلب حتى لا يفتح الباب على مصراعيه للعبث بمصالح الأمة وأفرادها، والمؤلم حقاً هو أن نتجاوز مرحلة التسويغ والتسويق لبعض الفتاوى والاجتهادات التي جلدت سياطها ظهر الأمة إلى هذا الخلط في مصطلحات الإسلام الشرعية كالخوارج والبغاة وقطاع الطريق، ومحاولة حشد الأدلة والقصص لخروج المعتدين من هذا المأزق بأقل الضرر دون تفكير بالضحايا من إخوانه المسلمين الآمنين، فعجباً لمن يطلب الرحمة بقاتل ويسوغ فعله، وينسى الضحية المقتولة ظلماً، وهو أشبه بالأمم الكافرة حينما تنتقد تطبيق الشريعة الإسلامية بحجة قساوتها على الإنسان القاتل مقابل تجاهل حق المقتول وعندما نتناول هذه المصطلحات بالتفصيل نجد أن الحنفية مثلاً قسموا الخارجين على الإمام (شرح فتح القدير 4-408، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3-157) كما يلي:
1- الخارجون على الإمام بلا تأويل بمنعة أو بغير منعة، يأخذون أموال الناس وركائبهم ويقتلونهم ويخيفونهم فهؤلاء قطاع طريق وليسوا بغاة.
2- الخارجون بتأويل ولا منعة لهم وهؤلاء قطاع طريق أيضاً.
3- الخارجون بتأويل ولهم منعة ويرون وجوب الخروج وبتأويلهم يستحلون الدماء والأموال وهؤلاء خوارج.
4- قوم من المسلمين خرجوا على الإمام ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من الدماء والأموال وهؤلاء البغاة.
ومن يتأمل الأحداث الأخيرة التي قامت بها تلك الفئة في وطننا يجد أنهم خرجوا على الإمام واستباحوا الدماء والأموال وروعوا الناس وخوفوهم، فهم أقرب إلى قطاع الطريق من الخوارج، لأنه لا منعة لهم، والعجب أن يطلق عليهم بعض طلبة العلم بغاة تخفيفاً من حدة المصطلح والحكم الشرعي، وبخاصة أنهم لا رؤساء لهم ظاهرون ولم يتحيزوا لجهة معلومة يمكن للإمام أن يناقشهم ويحاورهم ويرد على شبههم، والبغاة من خالفوا دون قتال واستباحة، ومع ذلك جاء العفو الملكي دليلاً على حرص قادة البلاد على جمع الكلمة ووحدة الصف مع أن الحنفية والمالكية (البدائع 7-141، وشرح فتح القدير 4-411، والمهذب 4-281، والبحر الزخار 6-418) يرون أن البغاة والخوارج يجوز قتالهم بكل وسيلة تحقق النصر عليهم لدفع شرهم وكسر شوكتهم، ويرى الشافعية والحنابلة والظاهرية (مغني المحتاج 4-127، المهذب 2-281، الأحكام السلطانية للماوردي 55، المقنع 3-511، المغني 8-110، المحلى 11-116) أنهم يقاتلون بما لا يجوز أن يعم إتلافه من غير ضرورة فإن كانت ضرورة فلا بأس بكل وسيلة.
وبناء عليه يستدل من جوّز مطالبتهم بالحق الخاص بمطالبة الإمام علي رضي الله عنه (سبل السلام 3- 1202) بدم عبدالله بن خباب حين قتله الخوارج، وأما الاستدلال بحادثة خالد بن الوليد على إسقاط المطالبة بالحق الخاص فباطلة لاختلاف أركانها وقيامها وعدم تجريدها من سياقها ثم هي في حق من وطاعة لمن مع أن جمع الكلمة مطلب شرعي وللإمام ضمان الحقوق الخاصة عن البغاة والخارجين بشرط التوبة والرجوع لبيت الإسلام إذا رأى المصلحة في ذلك، لأن القاعدة الفقهية الشرعية تنص على أن تصرفات الإمام على الرعية منوط بالمصلحة بدليل قول أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم.. وقد رجع عن ذلك ووافق رأي عمر رضي الله عنه حين قال: إما أن يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا في سبيل الله تعالى على أمر الله، ولم ينقل عنه أنه أغرم أحداً فكان إجماعاً (المغني 8-113) مع أن هذا الحكم في حق المرتدين وليس في حق الخوارج والبغاة.
إننا نسمع كثيراً تحرير محل النزاع، والمتحدث يدرك أن رأي الإمام يرفع الخلاف، لأنه أعلم بحال أمته ولنأخذ مثلاً مسألة استعانة المسلمين بأهل الكتاب لصد عدو، هذه المسألة التي دفعنا ثمن الخلاف فيها كثيراً حتى حرمتنا من سماع طلبة علم فضلاء وحضور أمسيات شعراء عظماء، ولم يدركوا رحمنا الله وإياهم أن الحنفية والحنابلة والشافعية والمالكية في رواية (المبسوط 10-330، مواهب الجليل 3-352، مغني المحتاج 4-221، المهذب 2-259، المغني 8-414) يرون جواز ذلك في صد العدو عنهم بشرط عدم الغدر والخيانة، وهذه أمن جانبها استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعان في غزوة حنين في السنة الثامنة من الهجرة بصفوان بن أمية وهو مشرك، وقوة المسلمين في تلك الفترة لا تقارن بضعف المسلمين في هذا الوقت بينما خالف المالكية في رواية استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم (فارجع فلن أستعين مشركاً) ورد هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمن خيانته، أو أن الضرورة لم تحوج إليه. فأي نزاع نحرره بعد شبه إجماع من المذاهب، وكل ما حدث لا يستحق الخلاف والفرقة والمواجهة... والله من وراء القصد.
* الإمارات العربية المتحدة |