المهتمون بالمنطق يتفقون على أن المعاني ثابتة.. والمفاهيم متغيرة.. وإذا تغيرت المفاهيم نحو الأفضل.. فذلك تطور في الأفراد والمجتمعات.. وهي في الغالب تتطور إيجابياً في المجتمعات والشعوب التي تتحرك طبيعياً .. ولا تتعرض إلى توجيه قسري مخطط.
لا شك أن المفاهيم تختلف بين المكان والزمان اختلافاً يصل إلى حد التضارب، فمفهوم النبل الذي ساد القرون الوسطى في أوروبا يختلف كثيراً عن نفس المفهوم الذي ساد العالم العربي في ذات الوقت، ورغم أن ثورة المعلومات التي جعلت من العالم قرية صغيرة قد قربت المفاهيم، ووضعت حداً أدنى من الاتفاق على المفاهيم العامة إلا أن الاختلاف الذي يصل أحياناً حد التضارب ما زال يحكم العالم.. فمفهوم عفة العرض لدى الغربي تختلف عنه بشكل سافر لدى الشرقي.. فهي حرية شخصية للغربي وقيمة مطلقة دونها خرط القتاد للشرقي..
وهذا الاختلاف في المفاهيم الذي يصل أحياناً إلى حد الشطط ناتج عن اختلاف الثقافات ومصادرها.. وقد وصل الشطط في هذا السياق بشاعرنا العربي القديم إلى الحد الذي قال معه:
فما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
اختلاط المفاهيم بين المجتمعات والشعوب أمر قائم، ومفهوم بل ومقبول.. لكن اختلاف المفاهيم في المجتمع الواحد مستغرب.. وهنا تتحول الحالة من حالة اختلاف إلى حالة خطأ وصواب.. والخطأ والصواب في المفاهيم يمكن أن يكون فردياً.. ويمكن أن يكون جماعياً.. وبسبب اهتمامي بقضية توطين الوظائف فقد اتخذت منها نموذجا لإيضاح أبعاد الخطأ الجماعي للمفاهيم.
البطالة قضية وطنية عناصرها أربعة وهم: طالبو العمل.. والحكومة.. ورجال الأعمال.. والمجتمع.. وفقاً لترتيب أهمية العناصر حسب مفهومنا الدارج.. فالمتفق عليه أن طالب العمل هو المحور الرئيس للمشكلة، لذلك سوف نبدأ به في توضيح سوء الفهم الذي يكتنف وضعه في هذه القضية الرئيسية من قضايا مجتمعنا السعودي.. فطالبو العمل في أغلبهم يرون أن الأمن الوظيفي في العمل الحكومي.. بينما الحقيقة أن أمنهم الوظيفي فيما يكتنزون في أدمغتهم من علم ومعرفة.. وفيما يجيدونه من مهارات.. ويتحلون به من سلوكيات.. وما حباهم الله من مواهب وقدرات.
العنصر الثاني في القضية هي الحكومة.. فبعد عشرين عاماً من تأسيس مجلس القوى العاملة ألغي المجلس ولم يحقق شيئاً.. سوى أنه رسخ في ذهن المسؤولين في الحكومة، ومن ورائهم المجتمع أن القطاع الخاص هو المسؤول وحده عن التوظيف وإيجاد فرص العمل.. وعندها أعلنت الحكومة حمايتها لطالب العمل.. وأوحت له أن عليه أن يطمئن، فهي سوف تحميه وتفرض على القطاع الخاص توظيفه.. وبذلك وطدت فيه روح التراخي والتهاون.
رجال الأعمال هم العنصر الثالث.. وهم المطالبون بتوظيف 300 ألف عاطل عن العمل.. وقرابة مائتي ألف طالب عمل جديد يدخلون السوق في كل عام.. إذا كان رجال الأعمال هم المطالبون بتوظيف هذه الأعداد.. لماذا لا يكونون هم العنصر الأول لا الثالث؟ ألا ترون أن القضية هنا معكوسة؟.. فمتى كان المانح أقل من المستفيد؟.. ومتى كانت اليد العليا أدنى مرتبة من اليد السفلى؟.. أليس هذا اختلاطا في المفاهيم؟
المشكلة أن رجال الأعمال أنفسهم لا يعون أنهم المحور والعنصر الأول والأهم في معادلة توطين الوظائف.. لذلك فدورهم الفكري التخطيطي القيادي محدود جداً إن لم يكن معدوماً.. وبحكم اهتمامي أعرف أن الغرف التجارية ،أسندت إلى مجلس الغرف تمثيل رجال الأعمال أمام الحكومة ممثلة في وزارة العمل.. وأعرف أنه تم تكوين لجنة منذ ثلاثة أشهر بعضوية مدير إدارة في المجلس وثلاثة أعضاء من الغرف التجارية والصناعية الثلاثة (الرياض، جدة، الدمام).. هذه اللجنة تجتمع بضع ساعات في الشهر لتقديم رأيها ومقترحاتها بخصوص حل مشكلة البطالة.. من وجهة نظر رجال الأعمال؟
إنني ألتمس العذر لأمين عام مجلس الغرف فهو في فيضان جارف أعانه الله عليه.. لكني ألوم رجال الأعمال.. ألا ترون أنهم مفرطون؟.. إذا كان مجلس الغرف بالكاد يستطيع أن يقوم بأعبائه لحجم الأعمال المناطة به.. وضعف الإمكانات المتاحة له.. فكيف يترك رجال الأعمال لتقديم وجهة نظرهم أمام الحكومة التي تمثل المجتمع كله للجنة لا تكاد تجتمع لانشغال أفرادها؟.. الموضوع يحتاج إلى إسناد من بيت أو بيوت خبرة.. فالقضية تتجاوز قدرات أي لجنة مع كامل الاحترام والتقدير لجهود أعضائها.
وأخيراً العنصر الرابع.. هو المجتمع.. وأعتقد أن وضعه رابعاً هو المكان الذي يستحقه في هذه القضية.. فالمجتمع السعودي لم يتعود بعد أن يقول رأيه.. وهو قابل للتوجيه.. لكنه لم يجد من يوجهه الوجهة السليمة تجاه هذه القضية.. فالمجتمع تماماً كطالبي العمل يؤمن خطأ ان الأمن الوظيفي في العمل الحكومي.. ويؤمن أن توطين الوظائف لن يتم إلا بالقوة والعسف.. ولا يرى في البطالة أو العطالة عن العمل عيبا.. ولا يرى في الالتزام والانضباط قيمة.
لا بأس أن تختلط مفاهيمنا تجاه بعض الأمور أحياناً.. لكن البأس وكل البأس هو أن ندرك الخطأ ونعينه ولا نقوم بتصحيحه.
|