Wednesday 6th October,200411696العددالاربعاء 22 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

يارا يارا
سياحة داخلية (الأخيرة)
عبدالله بن بخيت

بعد ساعة أو ساعتين فقد القطار وهج حضوره ، تقافزنا هنا وهناك وانتقلنا من عربة إلى أخرى ، وشربنا شاهي في المطعم وأخيراً عدنا إلى مقاعدنا ، كل شيء أخلد للهدوء فيما عدا سعود الشاوي ، يبدو أن رحلة الحب التي نقوده إليها أضرمت في قلبه كل حكايات الحب التي سمعها وربما عاشها ، أربع ساعات متواصلة لم يتوقف فيها سعود عن قص حكايات الحب ، حاول بكل ما يستطيع أن يبرهن لنا أن كل هذه الحكايات كان هو بطلها ، كانت مشاعره تتنقل بين الحرارة والألم ، عندما يتحدث عن أحاسيسه ترف في عينيه السعادة وعندما يتحدث عن أحاسيس الطرف الثاني تخبو هذه السعادة ويحل محلها الألم .. عرفنا في ظرف ساعة أن كل تجارب الحب التي مر بها سعود كانت فاشلة ، كانت من طرف واحد ، وبعد أن تعب من تمطيط قصص حبه الشخصي القليلة ، بدأ ينسب قصص حب الآخرين إلى نفسه .. وأخيراً بدأ يخترع قصص حب لا يمكن أن تحدث ، كان هذا هو الجزء الذي أحببنا فيه ، كان الخيال فيها واضحاً جلياً ، كان يبالغ في سرد الأحداث ، من الواضح أن حياته تخلو من تجارب أو أمكنة لتزود خياله بمواد يعمل عليها ، يسرد قصص حب تصلح للصور المتحركة ، ولكنه كشف تعطشه لشيء إنساني يملأ الفراغات في قلبه ، تجاوز الخامسة والأربعين ولم يعرف الزواج ، جاء إلى الرياض قبل أكثر من خمس وعشرين سنة ضاعت كلها بين الغنم والتيوس ، كان احتكاكه بالبشر إما بالسخرية منه أو من خلال العمل ، رحمناه وتعاطفنا معه وأخيراً أحببناه ، كان رجلاً شريفاً أعمته العزلة وحطت من شأنه الغربة وأضناه الشوق للحب ، عندما وصلنا الدمام تغير موقفنا منه نهائيا ، بدأنا نعده واحداً منا بعد أن تلاشى فارق السن بسبب العطش المشترك .
في نفس الليلة من وصولنا ودون أي إبطاء انتقلنا من الدمام إلى الخبر على أساس أن الأمريكانيات كن يتجولن في الليل في شوارع الخبر ، بدت الخبر مدينة رائعة وجميلة لا يوجد ما يشبهها في الرياض سوى شارع الوزير ، كنا سنكون فيها أسعد بدون سعود ، عندما هبطت بنا بطوننا من مخمليات الحب إلى الواقع بدأنا نواجه الوقائع الساطعة ، تدارسنا الأمر بروية فتم توزيع الأكل حسب الميزانية ، الفطور إما صحن شكشوكة أو صحن مقلقل لكل واحد مع برادين أبو أربعة للجميع ، الغداء والعشاء رز بخاري ، كل اثنين في صحن ، عندما دخلنا المطعم في أول ليلة واجهنا اشكالاً صغيراً ، من سيأكل مع سعود ، ليس جزعاً من رائحة التيوس العالقة فيه ، ولكن لأن لقمة سعود عن ثلاث لقم مما تبلعون ، فاتفقنا أخيراً حسب اقتراح اليماني راعي المطعم أن ينكب كل الصحون في تبسي واحد ، ومن باب التفهم الأخوي كان اليماني يضيف من ثلاث إلى أربع ملاليس على الحصة المقررة ، كنا ننازق على سعود حتى يخفف من يمناه العاصفة ، ونكب أكبر كمية من السلطة في دربه حتى تثقل لقمته ،كنا نسير في الشوارع كلغز ، لا يستطيع أحد مهما أوتي من خيال أن يفسر العلاقة بين شلة هالمراهقين الصغار وبين هذا الشاوي الأربعيني ، أحياناً يتجرأ بعض الناس ويسأل ، ولكننا لا نجيب رحمة بالسائل .. لأن الجواب أكثر تعقيداً من السؤال.
لم نستطع أن ننام تلك الليلة ، كانت المراكيز الجيدة محجوزة والقهوة ملآنة بالزبائن ، وصراخ القهوجية يضج في كل مكان ، في انتظار أن تخلو المراكيز الجيدة طلبنا ثلاث شيش وبرادين أبو أربعة ، فوجئ سعود بالشيش فصرخ : أثركم منتوب سهلين ، لكنه لم يرفض دوره في الشيشة واستلام اللَّي ، شفط كم شفطة وهو يتكلم وأخيراً سكت ولم يعد يمد اللَّي لأحد ، استأثر بالشيشة وبدا الدخان يخرج من خياشيمه كقاطرة بخارية تشق طريقها في المجهول ، انعزل بعينيه بعيداً في ظلمات الصحراء التي يعرفها جيداً ، انفرجت أساريره فبدا أصغر من سنه بكثير ، لمعت عيناه ببريق الشباب الأول ، ظهرت عليها أزمنة الحزن الأولى والتطلعات المهدرة في الأوهام ، لعله تحسس سبب آلامه ، لعله اكتشف أن الحياة تستحق أن تعاش ولو مع صغار ، طالما يعرفون كيف يبدؤون حياتهم.
أطلت علينا شمس ذلك الصباح ربما كانت أكثر شموس هذه الدنيا سطوعاً في مآقينا ، لملمنا أشياءنا وركضنا إلى أقرب تكسي ، نصف ساعة من القهوة إلى الهاف مون ، نصف ساعة لتبلغ الرحلة ذروتها ، وطئت أرجلنا رمال الشاطئ فانكشف المكان عن أشياء لا يمكن تخليها .. علي أن أعيد ترتيبيها من جديد وبلغة جديدة لتصبح قصة جديدة سأقصها عليكم في يوم من الأيام ،

فاكس 4702164


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved