التشدّد خلق اجتماعي قبل أن يكون صفة، وبالرغم من ذلك فقد تحول مع مرور الزمن إلى صفة وموصوف بها، بل عرف عن نوعية من الناس وعينة منهم أنهم متشددون، والتشدّد ذاته صنو الانغلاق؛ لذلك تجد من يمارسونه واشتهر عنهم منغلقين على أنفسهم في قريتهم أو حيهم أو قومهم دون غيرهم، لكنك تحس عند التعامل معهم أنهم كذلك وإن لم يفصحوا؛ لأن مظاهرهم ومخابرهم تنبئ عنهم.
وهذا التشدّد أو لنسمِّه (التزمت) لا يأتي من فراغ، بل هو إرث اجتماعي قبل أن يكون فكرياً؛ فالتعبئة ضدّ الآخر والتنشئة الصارمة المتشددة تولد فتى كذلك متخلقاً بخلق التشدد، فيستمر على ذلك الخط الذي لا يحيد عنه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوّده أبوه |
ويستمر الجيل بعد الجيل على تلك الصفة حتى تصبح ميسماً من مياسم أولئك، وتصبح شهرة لهم يعرفون بها. والمتشدد كثيراً ما ينافي السماحة وسعة الأفق وسعة الاختلاط والاطلاع في الكون وقدرة المكون - سبحانه وتعالى -؛ لأنه تعلم شيئاً لا يمكن أن يغيّره؛ ففكره مبرمج على مثل تلك الأخلاقيات الاجتماعية والممارسات المنغلقة والموغلة في نوع من النرجسية للذات أو الأسرة أو القرية التي عاش فيها؛ أي أنه لا يقبل أن يتغير أو يتأثر بالمتغيرات التي تحصل حوله رغماً عنه، وهو يرى أنه على حق وغيره على باطل دائماً!!
هو يرى أنه هو الوحيد أو مجموعته أو قريته الذي على حق، أما غيره فلا، هو يرى أنه هو الأسّ وغيره فرع، وهو يرى أن غيره مجنون وهو العاقل، وهو يرى أنه المحور وغيره نجوم صغيرة تدور حوله وفي فلكه؛ ومن هنا ينجع كثيراً في تقديس ذاته ونرجسية مكانه وزمانه، وأمثلة ذلك كثيرة عبر تاريخ الأمة وأطوار حياة البشرية، وهو مشهد غريب من مشاهد الحياة المتجددة التي وقفت عند أولئك؛ فهم عندما يتحدثون ترى أنهم يرون أنهم الأهم حسبما يعتقدون، وهم عندما تتاح لهم فرصة الحديث في جمع أو على شاشة فضية يقولون إنهم الصفوة وغيرهم النخالة، وهم يبرؤون أنفسهم من كل عيب ويلصقونه بالآخرين، وهذه هي الفاجعة الفكرية التي قد يصدقها من لا يعرفهم، أما من يعرفهم فيضحك على مضض منهم.
أعتقد جازما أننا نمر بمرحلة خطيرة من حياة أمتنا، وحياة وطننا، وأن هذه المرحلة تنفي مثل تلك الأفكار المتشددة التي يقولبها معتنقوها بشكل حضاري فيه جمال المظهر وسمّ المخبر، وهو خطر له نتائج لن تفيد المجتمع خيراً، بل تزيده فرقة وكرهاً وتعصباً لفئة على حساب فئات أكثر، وهذا ما نحاربه كمجتمع كبير يرصد أفكار أولئك المتكلسين ممّن يمارسون الوصاية الفكرية والاجتماعية على الكثرة من أبنائنا العقلاء الصامتين على مضض من نرجسية أولئك، ولكن الأهمّ والأكثر ألماً هو: إلى متى يصمت الكثرة أمام زمجرة وعضلات القلة التي تمتلك النرجسية بسبب فرصة أتيحت في غفلة من الكثرة؟!
لا أدري، لكن الذي يجب أن نعيه كمفكرين وكرسميين أن هناك شيئاً في أفق النرجسية القديمة بدأ يلوح في أفقنا فيجب علاجه؛ لئلا يكون هناك فراغ في المجتمع نتيجة ضغوط النرجسيين في كلّ حين.. وخير الأمور الوسط.
فاكس 2372911
|