أنت أيها المبدع المسكين عندما تنشر عملك، يواجهك بعد الرقابة الرسمية، رقابات عدة: ذائقة الجمهور المتقيدة بالدارج المتفق عليه سلفا.. ورقابة متلقٍ بائس متزمت يلوي أعناق النصوص ويحملها ما لا تحتمل.. ونقاد نمطيون حراس على ما تعلموه من معايير جامدة..الخ. أيها المسكين الواقع بين دول ثلاث، أو كما عبَّر (كرومبي): (إن دولة الأدب تحتلها ملكات ثلاث: ملكة الإنتاج، وملكة التذوق، وملكة النقد). على أن أقسى ما في ملكة التذوق هو رقابة الجمهور أو الذائقة العامة عبر معيار النمط المألوف والقيمة النفعية السطحية المباشرة دون الاعتناء بفنِّية الأسلوب الجديد وبجماليات اللغة وآثارها البعيدة المدى؛ فليس الهدف من الفن الإتيان بأفكار جديدة، بل التعبير عن فكرة أو تجربة ذاتية، فالفن هو التعبير، والتعبير هو الفن (اكروتشي) . وفي عالمنا العربي ويلٌ للكاتب الذي يخرج عما اعتاده الناس من أسلوب الكتابة وعما استأنسوا به من طرائق القول، فلا بد لك من أن تمضي مع ذائقة القطيع.
والمبدع الحصيف يعي تلك الفخاخ، يبدع غزالة برية تنفر من الذين ينصبون الشراك للإيقاع بها (هنيدي). فلطالما واجه المبدعون حواجز و فخاخ ذائقة عامة أو نقاد مدرسيين أعلنوا بطلان وتفاهة جديدهم ، ثم ما لبثوا يسيراً من الزمن حتى أعلنوا عظمة هذا العمل الجديد. ألم يواجه العبقري فان كوخ نقداً مسفهاً لكل أعماله، فلم تكد تنتهي سنة يتيمة، بعد موته كمداً من النقاد وفقراً مدقعاً حتى غدت لوحاته من أثمن اللوحات فنياً وماليا!! ويصحُّ الأمر كذلك على الروائي الشهير كافكا في الغرب الأوربي وعلى الشاعر بدر شاكر السياب في المشرق العربي. ألم يُكتشَف شكسبير إلاّ بعد وفاته بأكثر من مائة عام؟ وكذلك هو أمر هولدرلِن الذي مات مغموراً، وظلَّ كذلك حتى اكتشفه القرن العشرون (يوسف اليوسف). ولعل أشهر مثال في تراثنا العربي هو أبو تمام في بدائعه وإبداعاته؛ حين قيل له لماذا تقول ما لا يفهم، فقال لماذا لا تفهمون ما يقال؟ أو كما جاء في قول أبي اسحق الصابي: (أفخر الشعر ما غَمُضَ، فلم يعطِك غرضه)، ولكن حظ أبي تمام كان أفضل من كثير من المبدعين إذ نال الاعتراف والحظوة في حياته مثلما نالها بعد مماته.
فأي ذائقة تقرر تفوق أو تدني عمل إبداعي ما؟ هل هي ذائقة العامة من القراء الذين درجوا واعتادوا أنماطا مألوفة من الصيغ والأساليب؟ أم خاصة العامة من القراء المثقفين الذين امتلكوا ذائقة وقدرة على التمحيص؟ أم النقاد الذين تمرسوا بنظريات وآفاق متنوعة؟ بغض النظر عن كون غالبية النقد الأدبي والفني في العالم العربي هو نقد تنظيري وليس تطبيقيا يسبر أغوار النص ويحلله ويفككه للوصول إلى أحكام نسبية.. من يقرر من؟ الإجابة مفتوحة! والنقد قادر على الكلام بينما الفنون كلها خرساء (نورثروب فراي).
هل يكفي التذوق وحده لفهم النص والحكم عليه؟ أم يدعم بالمعايير النقدية الأخرى؟ وهل يمكن أن تتعارض ذائقة المتلقي أو الناقد مع تقييمه للعمل الإبداعي؟ أم انهما متفقتان بالضرورة؟ هل يمكن مثلاً أن تجد عملا إبداعيا لا تستسيغه ذائقتك ولكنك ترى أنه عمل فذٌّ وجدير بالاحترام؟ كيف ندرج الذائقة مع العملية النقدية؟ ينبغي أن نتفق على ماهية التذوق أو الذائقة، لأنها تأتي في طليعة رد الفعل الأولي والنقد الانطباعي للعمل الإبداعي .
يجدر بنا، قبل تحديد ماهية الذائقة، أن نتفق أن تذوُّق الظواهر الفنية والأدبية أو تحليلها، لا يمكن أن يدَّعي التوصل إلى أحكام نهائية مطلقة تغلق الآفاق أمام رحابة الذهن المتَّقد والخيال الخصب، لكيلا تقود إلى أحادية تضيِّق من مساحة الرؤية وتحول دون إخصاب العقل وإثراء التجربة الإنسانية، فهي ليست قوانين فيزيائية ومعادلات رياضية أو كيميائية . فلا معيار نهائيا للإبداع الجمالي. وهذا قد يوقعنا في معضلة قديمة أزلية هي تقييم الجديد في العمل الإبداعي..الخ . إذ قد يعني هذا عدم وجود معايير نقدية، ومن ثم يكتب من هبَّ ودب ما طاب له من مزق فاشلة ومخالفة للمألوف ثم يدعي أنها نقلة نوعية إبداعية مثرية! دون مصداقية لمنهجه الجديد وما يتضمنها من استيعابه للأسلوب السابق وللنمط الذي استحدثه في نصه. فما هي الذائقة؟
لعل أهم من تحاور مع مفهوم الذائقة في موروثنا العربي هم الصوفيون، في مقولتهم: (أن من ذاق عرف)، وزعيمهم ابن عربي الذي عرَّف التذوُّق بأنه (أول مبادئ التجلِّي، وهو حال يفجأ العبد في قلبه، فإن أقام نَفَسين فصاعداً كان شرباً. وهل بعد الشرب ريٌّ أم لا؟ فذوقهم في ذلك مختلف) وفي هذا النص كما لدى الصوفيين مزالق الخروج عن المألوف. أما القاضي الجرجاني في الوساطة فقد ذكر في معرض تقييمه للنص الشعري: (تأمَّلْ كيف تجد نفسك عند إنشاده، وتفقَّد ما يتداخلك من الارتياح، ويستخفُّك من الطرب إذا سمعته). وهذا ما يمكن أن نسميه بالانطباع الأولي، أو الذائقة الدارجة.. ونقلاً عن أبي عبد الرحمن الظاهري فإن الذوق أحد مقاييس النقد الأدبي عند العرب، وهو عند الآمدي (371هـ) ثلاثة أقسام: الطبع وهو القوة التي فطر عليها الناقد. والحذق وهو القوة التي يكتسبها الناقد بالمران والدربة. والفطنة وهي امتزاج الطبع بالحذق. ويرى أبو عبد الرحمن الظاهري أن الذوق الأدبي يسمو بالمطالعة والدراسة، ويتطور من عصر إلى عصر، لأن لكل عصر ذوقه.
ويعرِّف الناقد يوسف اليوسف الذائقة بأنها (الانفعال (التأثر، الالتقاء) بالوسيم أو باللطيف على نحو ممتع أو منعش. وهذا يعني أنها فاعلية مبدؤها مقاربة المناسِب أو الموائم بطريقة من شأنها أن تحذف كل فرق بين الذات، أي بين الذائقة، وبين المحتوى الذي يُذاق؛ إذ لا بدَّ من مضمون تمتلئ به الداخلية، وإلا فلن تكون سوى شبح أو وهم أو خواء مُفرَغ من كل ما يملأ أو يعني). لكن هل يمكن اعتماد الذائقة كمعيار لنجاح العمل الإبداعي؟ يقول اليوسف: (ويبدو أنه لا بدَّ من الوساطة بين الذوق والمعيار، أو بين الانطباع والتعليل، أي بين الوجدان والذهن اللذين يتنازعان السلطة على النص الأدبي). (التذوق) يحتاج إلى عملية (التعليل النقدي) المستند إلى أسس معرفية وفكرية قادرة على إصدار حكم قيمة نقدي، وقادرة على تبيين أهم الأسس الجمالية- الفنية والفكرية العامة في النص. وفي النتيجة النهائية أننا لا نستطيع معرفة القيمة الجمالية لأي نص بدون الاستناد إلى معايير فنية وفكرية عامة - ذات طابع نسبي - تساعدنا في عملية تحليل وسبر الأغوار العميقة للنص (فائز العراقي).. فالذائقة كما يراها اليوسف (طاقة ديناميَّة حية وشديدة القدرة على الاستبصار والاكتشاف. وهذا يعني أنها فعالية معيارية تهدف إلى الالتقاء بالعناصر الجمالية الصانعة للمزية في كل نص أدبي تلامسه...).
كل ذلك يقودنا إلى أن معيار الذائقة العامة والانتشار والذيوع من قبل الجمهور أو النقاد التقليديين ليس معيارا نهائيا، بل هو معيار نسبي كثيرا ما يكون مضلالا.
|