تحتل روما مركز الصدارة ضمن منظومةِ مدن العالم الحديث، وهي فاتنة بكلّ المقاييس، بمتاحفها ومطَاعمها وأسواقها ونوافيرها و(استادها) الشهير الذي يتمّردُ على سطوة الزمن! وهذا لا يعني أن هناك إجْماعاً بين البشر على محبّة هذه المدينة، وتزكيتها على ما سواها، فهناك مَنْ قد يصطفي مدينةً ما.. دون أخرى، لأسباب يسّوغُها (الكيفُ) الشخصيُّ لهذا المرْءِ أو ذاك، ورغم ذلك، تبقى رُوما رمزاً إبْداعياً لأَلَقِ التاريخ، وتَرفِ الحسِّ، وهيْبةِ الماضي ممزوجةً بفتن الحاضر وروائعه في أوسع معانيها!
**
* زرتُ روما أكثرَ من مرّة.. كانت الأُولى وأنا في طريق العوّدة إلى المملكة زائراً إبّان عَهد الدراسة الجامعية في أمريكا، لم أكدْ أرى شيئاً فيها لقِصَر المدّة، ثم زُرتُها بعد ذلك مراتٍ عديدة، وكنتُ أغادرُها كلَّ مرة وفي النفسِ شيءٌ من الوعد بالعودة إليها.
* وأذكرُ أنّني حَللْتُ ذاتِ صيفٍ ضَيْفاً عليها لحضُور مؤتمرٍ دوليّ عن إدارة التنمية، واجْتَهدَتْ الحكومةُ الإيطالية في تكريم ضيوفِ ذلك المؤتمر بدَعوتهِم لزيارة العديدِ من المعالم التاريخية في تلك المدينة، وكان من أبْرزها قصرٌ تاريخيُّ في قلب المدينة يعود تاريخُه إلى العهد الروماني، وقد احتضَنتْ حدائقهُ حفلَ غداء أقامته بلديةُ روما تكريماً لضيوفِ المؤتمر، وتوقَّف الحاضُرون مشْدُوهين أمام نظامِ الريّ في تلك الحدائق، وقِيلَ يومئذٍ إنّ فريقاً متخصِّصاً في الريّ اُسْتقدِمَ منَ الأندلس، أيامَ حكم المسلمين لها، لتصْميم وتنْفيذِ ذلك النظام العجَيب، وأنهّ لم يطرأْ عليه أيَّ تعديلٍ منذ ذلك الحين!
**
* وبعد..،
فقد لا ينافسُ رُوما في خاطري، سوى (توْأَمتِها) في الجمال.. باريس، وليسَ في هذا القول من عِوَج أو عَجَب، فالمدنُ، كالأشخاص، قد تصْطَفي منها ما لا يُروقُ لسواك، والعَكسُ صحيح، وقد كتبتُ مرةً عن مدينة نيويورك، قائلاً إنّها من المدن التي تَتَحكّم في أفْئِدةِ الناس حيَالها نوازعُ من الحبِّ والكراهيّة معاً، فإمّا أن تحبَّها جمّاً.. وإمّا أن تكْرهَهَا بقدر ذلك، وللناس فيما يحبُّون أو يكْرهُون.. مذاهبُ!
**
* أعودُ إلى روما، فأقول إنّني قد شُغِفْتُ بها حبّاً حرّضَني قبل أكثر من ربع قرنٍ على كتابةِ مقالٍ (رومانسي) عنها في مجلة (اليمامة)، بعنوان (ذكريات بلا أجنحة)، أقتبسُ منه للقارئ الكريم السّطورَ التاليةَ مع شيءٍ من التصرّف:
**
* قلتُ:
((.. كنت في روما.. مخْدع قيصر، وملهمةِ دافينشي.. ومتْحفِ الحب والحرب والجمال.. وكان لي معها ومع التاريخ والحضارة والفنّ لقاءاتُ ضّمتْها أيامي الستَّةُ فيها.. كنتُ أجوبُ شوارعَها وطُرقاتِها ما وسعني الوقتُ.. وما مكَّنتْني منه قدماي، حتى إذاَ ما عَاقَني المسيرُ أو عقّتْني قدماي، آويتُ إلى مجلسٍ في أحد المقاهي الأنيقة المنْتَثرة في الهواء الطّلق.. واسْتسْلَمتُ لقدْرٍ من التأملّ، ثم يجْنحُ بي الخيالُ في كلّ صَوبٍ مَا شَاء، وأشعرُ بسكينةٍ وجدانيةٍ غامرةِ لا يعكّرُها سوى وقْعِ الأَقْدامِ من حولي.. وقد ترتفعُ عيناي لتصَافحَ أهدابَ الغادين والرائحين.. وأشعرُ ولأوّلِ مرةٍ في حياتي بلذّة الفضُولِ البريء.. وأحياناً.. ترتَدّ إليّ عينَاي في خَفْر وحياء.. فأعودُ إلى سكوني.. أو يعود إليّ سكوني.. وتمضي الساعةُ والسَّاعتَان.. وأنا لا أكادُ أدركُ أيْن أنا.. وكأنّ (الذات) منيّ قد ذابَتْ في مَوجَةِ الحشْدِ الكبيرِ المتدفّق من حّولي، ومرةً أخرى.. تأسْرُني روعةُ الحشّد.. وفتنةُ المكان، وتتعلّقُ عينَايَ بالغادين والرائحين.. من كلّ لونٍ وزيِّ ولسَان!
**
* وليس عَسيراً على الزائر لروما.. أن يدركَ لأول وهْلة أنهّا متحفٌ بلا جدرانِ ولا نوافذَ ولا أبْواب، في كلّ ركنٍ منها هَمْسةُ حبّ.. وفي كلّ منعطفٍ فيها نَسْمةُ فن تحملُ إليك عَبَقَ التاريخ البعيدِ.. وتَمْرقُ في ذِهْنِك لحظتئَذٍ صُورُ قيصرَ وجُنْدِه وسَطَ الغَار والحبوُر..وعرائسُ الجمالِ يُحطن بهيْكل النَّصر ذاتَ اليمين وذات الشمال!!
* أجل!.. تلك هي روما.. فيها تلذُّ للعَين الرُّؤْيةُ، ويحلُو للعقْل التأمّلُ، وتَخلُدُ النفْسُ إلى روْضِ الخيال!
|