من أئمة المتقدمين في علوم اللغة والنحو والصرف العلامة ابن ناجي، هو عثمان بن جني الموصلي ابو الفتح من ائمة الأدب والنحو، ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة 392هـ (سنة 1002) عن نحو 65 عاماً، وكان ابوه مملوكاً رومياً لسليمان ابن فهد الازدي الموصلي (1) ويكفي ان يقال انه صاحب الخصائص فيستحضر العلماء شخصيته العلمية الباحثة الذواقة النافذة الى أعماق البحث الفلسفي في قواعد النحو والصرف وشخصيته الأدبية التي ألمت بأطراف الأدب الصفي، فكان كتبه العلمية أشبه بالدواوين في غرائب الشعر العربي.
ولابن جني جملة من الكتب في اللغة والنحو والصرف عرف أكثرها واشتهر بعضها ومما اشتهر من كتبه (الخصائص) ومما عرف له (اللمعُ) في النحو، وقد جمعه من كلام شيخه ابي علي الفارسي واختصر فيه قواعد النحو اختصاراً شديداً كما يؤخذ من اسم الكتاب فاسم الكتاب (اللُمع) وهي جمع لمعة ومن معاني اللمعة الاشارة باليد، فكلام ابن جني في اللمع عن قواعد النحو اشارات موجزة ذات احتمالات كثيرة، لذا اضطر العلماء من بعده الى توضحها والكشف عنها وتحديد المراد منها فشرحها بعضهم شرحا مطولا، وشرحها بعضهم شرحا موجزا. وممن تصدى لذلك العلامة ابو خباز فشرحه شرحا متوسطا لا هو بالكثير الممل ولا هو القصير المخل كما قال (فضمنت لهم اجلاء مختصرا اقتصر به على توجيه مسائل وتبليغ وسائل، وقد سميته (توجيه اللُمع)، وعللت فيه المسائل جمع).
فشرح ابن الخباز او إملاؤه على اللمع ليس كما يفهم العلماء من معنى كلمة الشرح الذي يحاول فيه الشارح الجمع والاستطراد، وإنما هو الشرح الذي يكتفي فيه بالتوجيه والكشف عن عبارات اللمع.
ولهذا الشرح مزايا، أولها اختصار العبارة والاختصار على المطلوب، ثانيها وضوح أسلوبه العلمي وضوحاً لا يوجد في كثير من أساليب المتقدمين في علم النحو، ثالثها كثرة الاستشهاد بالشعر العربي حتى لا يكاد تخلو قاعدة منه من الاستشهاد به، رابعها اعراب الغامض من الشواهد والكشف عن غريب اللغة فيها.
ومن الغريب ان ابن خباز أملي هذا الشرح ولم يأخذ فيه عن كتاب كما يقول في آخر كتابه (ولم استعن في مدة إملائه بمطالعة كتاب، وقد اودعته نبذا مما رويته عن شيخي مجد الدين بن ابي حفص عمران بن احمد بن ابي بكر بن مهران) وقال أيضاً: من عثر لي في هذا الإملاء على عثرة فليكن العاثر عاذرا غافرا لزللها وسادا لخللها فإن السعيد من عدت سقطاته).
وابن خباز لا يذكر عبارة اللُمع كلها، وإنما يقتصر على ما يريد بيانه وتوجيهه منها، وأنا لنقتبس من الكتاب ما يوضح ما ذكرنا، قال في خطبته: (احمد الله على توفيقه وتسديده ومنه علينا بأن جعلنا من أهل التوحيد واسأله من فضله الجزيل أبلغ مزيده، وأصلي على نبيه محمد الصادق في وعوده، والناظم لجامع الكلم وسديدة وعلى آله المجتهدين في بناء الدين وتشييده صلاة دائمة ما تلفع عارض ببرودة، واختال بين بروقه ورعوده. أما بعد:
فإن جماعة من حفظة كتاب اللُمع في النحو لابن جني اطمعهم فيه صغر حجمه آيسهم منه عدم فهمه وذلك لان الكتب المصنوعة لتفسيره منها الكبير الممل، والصغير المخل، فضمنت لهم إملاء مختصراً..وكلما مررت ببيت ذكرت اعرابه، أو لفظ لغوي حليته تحلية تزيل استغرابه).
وقال في باب المعرفة والنكرة: المعرفة والنكرة في الأصل مصدران يقال: عرفت الشيء اعرفه معرفة وعرفانا، وانكرت الشيء انكارا ونكرته نكرة، قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث الا الشيب والصلعا
ويقال ان ابا عمور وضع هذا البيت، وعلى كل حال يستشهد به لان ابا عمرو لا يتقاعد عن الحسين بن مطير الاسدي الذي كان في زمان المهدي: فنقل النحويون النكرة والمعرفة وسموا بهما نوعي الاسماء، والاصل النكرة ولذلك بدأ بها وكانت الاصل لوجهين: احدهما: انك لا تجد معرفة إلا وله اسم نكرة، وتجد كثيراً من النكرات لا معرفة لها، والمستقل اولى ان يكون اصلا من المحتاج.
والثاني: ان الشيء منذ أول وجوده تلزمه الاسماء العامة ثم تعرض له بعد ذلك الاسماء الخاصة، ألا ترى ان الآدمي من اذا ولد سمي ذكراً او أنثى وانساناً مولوداً ورضيعاً وشيئاً موجوداً، هذه الاسماء مشتركة المعاني، ثم بعد اللقب والكنية، والاسم كعبدالله وابي عمرو وبطة، وقد اختلفت عبارات النحويين في حد النكرة، وهي راجعة الى معنى واحد، قال ابو الفتح: النكرة ما لم يخص الواحد من جنسه، وقال غيره: النكرة ما دل على شيء لا يعنيه. واعلم انه لا يشترط في النكرة كثرة المعاني الموجودة تحتها، بل العبرة ان يكون وضعها على الاشتراك، ألا يرى ان شمسا وقمرا نكرتان وان لم يكن إلا شمس واحدة وقمر واحد ويدلك على انهما نركتان دخول اللام عليهما، فإن قلت فقد جمعت الشمس والقمر،
قال الاشتر النخعي:
حمى الحديد عليهم فكأنهم
ومضات برق أو شعاع شموس
وقال الراجز:
وجوههم كأنها أقمار
ففي ذلك أبان أحدهما أن الشمس والقمر يتجددان، فالشمس في كل يوم والقمر في كل شهر فجمعها نظراً الى هذا، الا ترى انك تقول شمس اليوم أحر من شمس أمس، والثاني ان الجمع على تسمية الضوءين باسم النيرين واضواؤهما كثير...... الخ هذا ومن الغريب ان السيوطي في بغية الوعاء لم يشر في ترجمته لابن خباز الى هذا الكتاب كما ان حاجي خليفة صاحب كشف الظنون اشار اليه اشارة موجزة فقال: (توجيه اللُمع في النحو) ولم يرد على ذلك. وابن خباز هو أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي الشيخ شمس الدين بن خباز الاربلي النحوي الضرير المعروف بابن الخباز، وكان علامة زمانه في النحو واللغة والفقه والعروض، وله مصنفات مفيدة منها شرح ألفية ابن معطي والنهاية في النحو وشرح اللُمع لابن جني وشرح ميزان العربية والغرة المخفية في شرح الدرة الألفية والنظم الفريد في نثر التقييد، مات بالموصل سنة 637هـ (2) وقيل سنة 639 (3).
وبالمكتبة الأزهرية نسخة من كتاب توجيه اللُمع من اقدم النسخ، فقد فرغ من نسخها سنة 786هـ، وخطها حسن بالنسبة لخطوط عصرها وتقع في 208 ورقة وسطورها بين 22، 23 سطراً، كتبت عناوين موضوعاتها بالمداد الأحمر وختمها بقوله (فأسأل الذي صان اوجهنا عن السجود لغيره ان يصون ألسنتنا عن السؤال لغيره وان يعرفنا عيوب أنفسنا ويشغلنا بسترها وان يفتح علينا ابواب رزقه العميم منه الجسيم وان يجمع لنا العلم والعمل وان يحقق لنا هذا الأمل، وان يصلي على نبيه محمد الذي ارسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وان يجعل ما أمليته خالصا لوجهه الكريم انه اكرم مسؤول ولديه تحقيق كل مأمول فهو حسبي ونعم الوكيل). وان هذا الكتاب جدير بالنشر ويسد فراغا بين كتب النحو، وإحياؤه إحياء لكتب السلف التي خلت من الحشو والتطويل، وهدفت الى المقصود من غير استطراد، وعسى ان يجد بين المهتمين بأحياء تراثنا القديم من يعني بنشره.
والله ولي التوفيق..
كتبه:
عبدالرحمن بن عبدالعزيز الشثري
ص.ب:: 36065 الرياض 11419
الحواشي:
1- الإعلام للزركلي ص 364
2- معجم المؤلفين ج1 ص 200
3- النجوم الزاهرة ج6 ص 342
|