Sunday 3rd October,200411693العددالأحد 19 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "وَرّاق الجزيرة"

صيد الخاطر صيد الخاطر
تأليف: أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
الطبعة: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان

صيد الخاطر كتاب يضم بين دفتيه ما توخاه الفكر الفاتر، وقيده وجمعه القلم من صيد الخاطر، وحث فيه مؤلفه قارئه على التخلي من الأمراض النفسية، والتحلي بالآداب الشرعية، والأخلاق المرضية، وقد شحذ المؤلف عزمه وعزيمته، وأوقد شرارة همه وهمته، واستخدم فيه أسلوب الوعظ والإرشاد، فجاء خير جليس في الزمان الخالي، والكتاب جاء على هيئة أحاديث أشبه ما تكون بفن المقالات، فهو مقسم إلى مقالات تطول وتقصر حسب همة المؤلف وحاجة الموضوع نفسه، وفقرات الكتاب وجزئياته ماتعة ورائقة، تتخللها وعظيات المؤلف وزهدياته حيث اشتهر المؤلف وعرف برقة الوعظ وصدق الزهد، وكان يحضر مجلسه الآلاف من الناس بل حضر مجلسه خلفاء ضرب بينهم وبين الناس الحجاب، ومن نواحي متعة الكتاب تلك الشذرات التي تتخلل الكتاب وتحكي شيئاً من حياة المؤلف وسيرته الذاتية، والتي أضفت على المقالات الواقعية والحيوية والإيناس، ومؤلف الكتاب وُلد سنة عشر وخمسمائة أو قبلها وتوفي والده وله ثلاث سنين فربته عمته، وحينما ترعرع حملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر وهو خاله، فسمع منه الحديث، وحفظ القرآن، وقرأ على جماعة من القراء بالروايات ثم اعتنى بنفسه بعد أن شب عن الطوق فاعتنى بالطلب ونظر في جميع الفنون والعلوم والمعارف، وتحوي مقدمة الكتاب معلومات وافية عن ابن الجوزي غير التي أوردتها سلفاً، ومما جاء فيها أن ابن الجوزي اتجه إلى الوعظ منذ صغره وفاق فيه الأقران والأتراب، ومما ورد فيها قول محققي الكتاب - حيث إن الكتاب لم يشر إلى أسماء المحققين إن كانوا جماعة أو واحداً: (ونشأت له في ذلك ملكة عجيبة، وبديهة حاضرة، وتاب على يده الآلاف وحضر مجلسه الوزراء والحكام).
وكان مجلسه يقدر بمائة ألف، ويصف ابن الجوزي مجلسه بقوله: (لقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مئتي نفس، وكم سالت عين متجبر، بوعي لم تكن تسيل) ورزق الإمام ابن الجوزي همة عالية، وسعياً حثيثاً في طلب العلم، ويصف نفسه بقوله: (كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند المساء فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثر ذلك عندي أني عُرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال الصحابة وتابعيهم) ويسترسل في وصف نفسه قائلاً أيضاً: (إني رجل حُبب إليّ العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به ثم لم يحبب إليّ فن واحد بل فنونه كلها، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه بل أروم استقصاءه)، ويقال: إنه أوصى أن تجمع بُراية أقلامه التي كتب بها حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويُسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، فكفت ماء الغسل وفضل منها بقية.
والقرن الذي عاش فيه ابن الجوزي هو القرن السادس الهجري، ولم يتأثر أسلوبه بما عرى الأدب في عصره ودبّ فيها من عوامل الضعف والركاكة وورد في مقدمة الكتاب وصف لأسلوب ابن الجوزي جاء فيه: (ظل محتفظاً بنضارة العبارة وبهاء الأسلوب، فتأنق في كلماته وتفنن في طرق التعبير في أصالة وتمكن، وليس في أسلوبه اعتبار لحلي اللفظ أو نزول على حكمها ولكنه يختار لمعانيه الجليلة صورها المناسبة، فكان أديباً رائق العبارة ناصع الأسلوب قادراً على التعبيرات النادرة والتصوير الدقيق، ولا يكاد الإنسان يحس في أسلوبه فرق الزمان ولا يلمح فيه خصائص عصره).
ويصف ابن العماد الحنبلي شخصية ابن الجوزي فيقول فيه: (كان ابن الجوزي لطيف الصوت حلو الشمائل رخيم النغمة موزون الحركات لذيذ المفاكهة ولا يضيع من زمانه شيئاً، يكتب في اليوم أربع كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلداً إلى ستين وله في كل علم مشاركة، وكان يراعي حفظ صحته وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة وذهنه حدة يعتاض عن الفاكهة بالمفاكهة، لباسه الأبيض الناعم المطيب وله مجون لطيف ومداعبات حلوة ولا ينفك عن جارية حسناء وذكر غير واحد أنه شرب حب البلادر فسقطت لحيته فكانت قصيرة جداً وكان يخضبها بالسواد إلى أن مات) وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وتحت عنوان فصل بديع (الاشتغال بالتأليف واغتنام العمر) ذكر الإمام الكبير ابن الجوزي أن تأليف الكتب أنفع من التعليم بالمشافهة لأن التعليم بالمشافهة ينفع خلقاً معدودين في حين أن التعليم بتصنيف الكتب ينفع أجيالاً تلو أجيال، وخلقاً لا يحصيهم إلا الله تعالى، وهنا يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما خلقوا بعد ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم) والتصنيف المفيد في رأي ابن الجوزي ليس المقصود جمع أي شيء كيفما اتفق بل هو أسرار يطلع الله عليها من شاء من خلقه ويوفقه الله تعالى لكشفها، حيث يجمع ما افترق أو يرتب ما تشتت أو يشرح ما أهمل، وزمن التأليف والتصنيف لا بد أن يكون في وسط العمر لأن أوائل العمر وبواكيره لطلب العلم، وآخره لضعف الحواس وكلالها، فقبل الأربعين لا بد من التشاغل بطلب العلم وحفظه أما بعد الأربعين فيشتغل بالتصانيف والتعليم، ويوضح ابن الجوزي منهجية الطلب والتعليم فيقول: (ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم ويسمع الحديث والعلم ويعلل التصنيف إلى أن يقع منهم إلى رأس السبعين، فإذا جاوز السبعين جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه على نفسه إلا من تعليم يحتسبه أو تصنيف يفتقر إليه فذلك أشرف العُدد للآخرة).
ويقول سفيان الثوري عليه رحمة الله تعالى: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفناً وقد بلغ جماعة من العلماء سبعاً وسبعين سنة منهم أحمد بن حنبل فإن بلغها فليعلم أنه على شفير القبر، وإن كل يوم يأتي بعدها مستطرف.وأما الثمانين فمن يبلغها فقد سأم الحياة وملها وهي نذير الموت، والشاعر زهير بن أبي سلمى يقول فيها:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
وهذه السنون الثمانون يقول فيها ابن الجوزي: (فإن تمت له الثمانون فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله وتهيئة زاده وليجعل الاستغفار حليفه والذكر أليفه).
وبعد:
فالكتاب على طوله ماتع شائق وشخصية مؤلفه بارزة تلوح من خلال سطور فصوله، وهو ناقد صادق في نقده، منطقي في اعتراضاته ثم هو عالم واسع المعرفة، عميق المعلومات، وأسلوبه سهل ممتنع يناسب مختلف طبقات المجتمع، وفصول الكتاب يغلب عليها الإيجاز إلا في مواضع معينة تظهر فيها سمة الإطناب إذا احتاج المقام للإطالة والإسهاب، وجمال الكتاب يظهر في أسلوب المؤلف ويظهر في حديثه ويتجلى أيضاً في عناوين الفصول الجذابة والتي تدفع بالقارىء إلى إكمال القراءة والاستمرار فيها، ومتابعة مؤلف الكتاب في حديثه والذي يتسم بالصدق والموضوعية والصراحة، وهو يرقب المجتمع الذي عاش فيه بعين ثالثة ثاقبة لا تمر بصغيرة أو كبيرة إلا ذكرتها أو شاردة وواردة إلا خلدتها.
- رحم الله ابن الجوزي، وجعل عمله هذا وكتابه هذا سجلاً صادقاً في ميزان أعماله وحسناته.

عنوان المراسلة: ص. ب 54753
الرياض 11524


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved