رحل عن الحياة عمي الشيخ فهد العبد الله النعيم، وأخذ معه أجمل اللحظات التي كنتُ أركن إليها حينما أشعر أنني بحاجة ماسة إلى حنان الأب الذي فقدته في زمن لم أكن أُدرك فيه سموَّ هذه المشاعر ولا أهميتها ولا عمق جرح فقدها، فكان عمي الحبيب الراحل مثل البلسم شفى الجرح قبل أن يتوغل، وسرق مني شعوري بالفقد، وظل يطبطب على الأكتاف حتى كبرت، ويواسي القلوب حتى انجبرت، وتعلقت به أباً رحيماً، وصدراً حنوناً يستوعب كل حماقاتنا ومسؤولياتنا المتكاثرة. لم يكن عماً فحسب، كان يقوم بكل الأدوار، ويمنحنا اهتمامه بكل أشكاله، كان يقول: رحل أخي ناصر، وأنا بديل عنه.
لقد كنتَ يا عمي الحبيب خير بديل، وظللت معنا حتى اخترق الهواء أنوفنا، ودبت الحياة فينا من جديد. لقد كنتَ خير مَن يعطي في زمن شحَّت فيه كل العواطف، وجفَّت فيه المشاعر، وأصبحتْ صحراء قاحلة لا تنبت، وليس لها سماء ممطرة. من أجل ذلك كان فقد أبي برحيلك فقدين، وحزناً ينمو مع الوقت ويكبر، حتى شعرتُ أنك تُقتلع من قلبي وتُجتث من روحي. لست ممن يعترضون على الأقدار، بل إنني أؤمن به خيره وشره، ولكن لي مع الموت مواقف كثيرة؛ فهو يسرق أحبَّتي، ولا يبقى لي إلا جرحاً نازفاً وحزناً عميقاً.
ذلك الموت الغامض العاصف في سكونه، الساخر ممن حوله، القاتل في حضوره، الطاعن في جموده، إنه لا يتفاوض في أمرٍ، ولا يراعي أي خاطر، بل يجتث جدران القلوب حتى تهاوى وتسقط وتلعب بها الرياح كيف تشاء ومتى تريد، إلى أن تتحول أضلع صدورنا إلى هياكل لها أزيز الموت وصقيع البرد، وتظل قلوبنا خاويةً على عروشها، فالموت لا يترك لها أحبة تعمر، ولا أخلاء تغمر.
يبقى أن نتوسل لله العزيز الحكيم أن يتغمد موتانا بواسع رحمته، وأن يجبر كسري بغياب عمي، وأن يبقي لي من تبقَّى من هذه الشجرة الظليلة، وأن يريني في عمي الغالي عبد العزيز عمراً مديداً، وعيشاً رغيداً، ونعيماً فريداً، وألاَّ يفجعني فيه أبداً، فما عاد قلبي يحتمل رحيلاً جديداً؛ فقد طوَّقته أحزان الفقد حتى اختنق وسالت راحته مثل الصديد.. يا رب، إن كان لي عندك دعوة مستجابة أن تشمل بدعائي حبيبتي الراحلة مضاوي، وأن تتغمدها بواسع رحمتك، وتسكنها فسيح جنانك، وجميع موتى المسلمين.
|