الذي يجب أن نتفق عليه، ونؤكده، ونضعه أمام أعيننا دائما، أننا لا يمكن أن نتغير حضاريا كأمة حتى نفيق من سباتنا، ونعيد النظر في كثير من مسلماتنا، وبالذات تلك المسلمات التي تمثل ثقافيا ما يمكن أن نسميه: (عوائق) معرفية هي عند التمحيص، والتدقيق، والرؤية المجردة من أية عواطف، تمثل السبب الرئيس وراء تخلفنا.
فنحن أمة نسينا (دنيانا) ، وإعمارها، والعمل من أجلها، والارتقاء بشأن الإنسان فيها الذي هو محور الحضارات ومناطق اهتماماتها؛ الأمر الذي جعلنا في مضمار السباق الحضاري كالحصان الذي يجري وليس وراءه سوى ذنبه، هذه حقيقة لا يمكن القفز عليها، ولا تجاهلها عند الحديث عن تخلفنا الحضاري. والغريب أن تبقى هذه الثقافة ماثلة لدينا، في الوقت الذي نعيش في زمن تقوم القوة فيه على العلم، وتتمأسس منعة الأمم على التكنولوجيا، والاختراع، وكشف غمار المجهول؛ ومع ذلك نجد أن بعض المغالطين الذي لا يمتون للواقع الذي نعيشه بأي صلة، لا يكترثون بهذه الحقائق، ولا يعيرونها أي اهتمام، ويصرون على أن ثقافتنا هي (ثقافة متفوقة) ، في منطق هو أشبه ما يكون بمنطق: (عنز ولو طارت) !.
والسؤال الكبير الذي يجب أن ننطلق منه: هل ثقافتنا فعلا ثقافة متفوقة كما يدعون، أم هي ثقافة لا يمكن أن تبني حضارات؟
خذ - مثلا - الزهد في الدنيا، وتحقيرها، والحط من شأنها، وشأن المشتغلين بها، مثل هذه المفاهيم هي في المنطق السلفي - للأسف - أساس من أسس التقوى، ودليل على نقاء الشخص وطهارته وفضله ونبله. وهناك من النصوص والأقوال المأثورة ما يؤيد مثل هذا الاتجاه، ويرسخه في الذهنية الإسلامية عموما والعربية بشكل خاص؛ حيث يرفع من شأن الزهد، وكذلك الفقر، والإعراض عن الدنيا، وذمها، وتفضيل الانصراف عنها، مقابل الانشغال بالعبادات، فإذا أرادوا أن يرفعوا قدر عالم من العلماء - مثلا - وصفوه بالعالم (الزاهد) ، حتى أصبح (الزهد) في التحليل الأخير (مكرمة) من المكرمات، مع أنه بمنطق الحضارات (نقيصة) بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فالزاهد هو ذلك الإنسان الذي يمارس انسحابا سلبيا من مسؤولياته الحضارية في شقها الدنيوي، تاركا الساحة للآخر (المنافس) لأن يسيطر ويتحكم ويرتقي، بينما هو في صومعته منشغل بالعبادة، تاركا الدنيا بقضها وقضيضها لغيره، حتى يأتيه اليقين، أي أنه من زاوية أخرى (إنسان مهزوم) هارب من مواجهة واقعه الدنيوي، لأنه لا يملك، أو لا يريد أن يملك، آلياته، التي تمكنه بالتالي من الانتصار فيه، وهذا ما يدل عليه الفعل: (زهد) لدى ابن منظور في (لسان العرب) ، يقول ابن منظور: (الزهد: ضد الرغبة والحرص على الدنيا، والزهادة في الأشياء كلها: ضد الرغبة) . والسؤال: هل يمكن لإنسان كهذا أن يبني حضارة؟ هذا أحد الأسئلة الجوهرية التي يجب أن نقف عندها، ونتدبرها، ونكون جريئين في الإجابة عليها.
ومن نافلة القول أن بين الزهد وبين (المال) ، بمعناه العام، ما يمكن أن نصفه (بالتضاد) . فمن معاني الزهد الرئيسية الزهد بالمال على وجه الخصوص، وعدم الاكتراث به، والتعامل مع المهتمين به على أنهم (طلاب دنيا) في وصف يشم منه التعفف والتنزه. ولا أجد نفسي مضطرا ونحن نتحدث عن هذا الشأن للقول إن أس الحضارات دائما وأبدا هو (المال) الذي هو مجال الاقتصاد، وعندما نحط من قدر المال أو الاقتصاد، ونقلل من شأنه، وندعو إلى الزهد فيه، فكيف بالله عليكم نستطيع أن نصنع حضارة؟.
صحيح أن هناك أقوالا تجدها مبعثرة هنا وهناك في تراثنا تدعو إلى الموازنة بين الشأن (الدنيوي) والشأن (الأخروي) ، مثل القول المأثور المنسوب لعلي بن أبي طالب، وقيل لعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) ، أي لا يشغلك (طول الأمل) بترك دينك، ولا (قصر الأمل) بترك دنياك، فيجب أن تكون بين المنزلتين في وضع متوازن. غير أن مثل هذه الأطروحات تبقى على مستوى الممارسة غريبة عن واقعنا إنثروبولوجيا، وبعيدة عن أن تشكل بنية معرفية يمكن الاعتماد عليها كدافع للإنسان في التعامل الحضاري. فالإنسان المنصرف عن الدنيا، وعن العمل لها، وعن الإبداع فيها، هو (الإنسان المثالي) الجدير بالتقدير والاحترام في مفاهيمنا الثقافية.
وقبل أن أختم هذه العجالة أقول: فقط يجب أن نتذكر ونتدبر قوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، فقد بدأ - جل شأنه - بالدنيا قبل الآخرة في دلالة لا تخفى على الحصيف. وغني عن القول إن في هذه الآية فصل الخطاب، ومربط الفرس من القضية برمتها.
|