بالرغم من العدد الكبير من الكتب التي تم تأليفها عن الشعب العراقي وعن سقوط نظام صدام حسين، إلا أن كتاب جون لي أندرسون (سقوط بغداد) يعد واحدا من أفضل تلك الكتب التي تستحق القراءة.
ولا يوجد موضوع أثير سياسيا في الفترة الأخيرة مثل موضوع إسقاط نظام صدام حسين، وصاحب ذلك ضباب إعلامي كثيف سواء من مؤيدي أو معارضي إسقاط صدام حسين، مما أدى إلى حجب المشاعر الحقيقية للشعب العراقي وما كان يكنه لصدام حسين وما يشعر به الشعب الآن، ولهذا السبب وحده فإن كتاب (سقوط بغداد) يعد من أفضل الكتب ويجب أن يقرؤه أولئك المهتمون بالشأن العراقي.
وقد استفاد الكاتب جون لي أندرسون من قدرته على التحمل وشجاعته الشخصية لبقائه في العراق حتى بعد اندلاع الحرب، ليخرج ذلك الكتاب الذي يمثل لوحة عن الإنسان العراقي على شفا الحرب، وهو عمل يجمع بين الحكمة والمأساة الإنسانية والتوضيح الأخلاقي لبعض القضايا.
في كتابه قام أندرسون باقتفاء آثار مجموعات متنوعة من الشعب العراقي في التسلسل الزمني لتلك الفترة غير العادية: منذ شعور الشعب بالرعب والعيش في ظل نظام صدام حسين الوحشي، والحكم الدكتاتوري، إلى المناخ السريالي لمدينة بغداد على مشارف الحرب، إلى تقدم القوات الغازية، إلى دوامة موت النظام وأيامه الأخيرة، إلى السيطرة غير المحكمة للقوات الأمريكية على العراق وما تلا ذلك من نتائج كارثية، ليخرج كتاب (سقوط بغداد) بمثابة توصيف كامل للمأساة الإنسانية والملحمة العسكرية بكل أبعادها من خلال سلسلة من قصص واقعية لأناس وقعوا في دوامة التاريخ الإنساني في العراق.
وقد كان أندرسون أحد الشهود الذين كشفوا النقاب عن نسيج المجتمع العراقي والتوتر اليومي والقلق مع اقتراب القوات العسكرية الأمريكية، مع تصاعد حدة المشاعر والنشاطات داخل البلاد.
ويصف أندرسون في كتابه كيف أن المواطن العراقي العادي كان يعلم تمام العلم أنه يقع في داخل بؤرة العاصفة، وأنه مستهدف من قبل أقوى وأكفأ القاذفات وصواريخ توما هوك كروز، كما أن الشعب كان يستعد للعمليات العسكرية الأرضية، وقد وصف المؤلف الشعب العراقي بأنه كان على درجة مذهلة من اللامبالاة والخضوع، والقبول البسيط لتلك الحقيقة المؤلمة وهو أن الأمريكيين قادمون، وأنهم لا يستطيعون فعل شيء حيال ذلك.
وفي خضم ذلك الجو المختلط من الخوف والرعب من الحرب، كان هناك شعور مقزز بالخوف من نظام صدام حسين، وقدرته اللا محدودة على معاقبة أي فرد يمكن أن يروه غير مطيع أو غير راض عن النظام أو غير موال له، فكان الشعب العراقي يتذرع بالكوميديا السوداء بقدر الإمكان، ويهمهم أثناء سعيه اليومي وراء لقمة العيش، عازما على النجاة من صدام حسين، ومن الأمريكان على حد سواء.
وفي عشية الغزو الأمريكي على العراق، شعر المؤلف مع خروج كافة الصحفيين مسرعين من البلاد بأنه مثل ذلك الرجل الذي لا يزال يقبع على سطح سفينة غارقة؛ فقوارب النجاة ترحل، ولكنه اختار البقاء. واستمر السيد أندرسون في كتابة تقاريره اليومية إلى مجلة (النيويوركر) الأمريكية، وقد تمكن من جمع تقارير لما سمعه ورآه في العراق لتصل إلى حجم كتاب، ومع تصاعد وتيرة الحرب تبخر كل ما لدى الكاتب من مشاعر ليحل محلها الرعب، وتحولت مدينة بغداد لتصبح مدينة أخرى غير تلك التي كان يعيش فيها، وقد عكست حواراته مع كل العراقيين الذين تحدث معهم - بدءا من الطبيب الشخصي لصدام حسين إلى صانع الجبن على أرصفة بغداد - حجم الرعب والهلع والإحباط، والشعور بالعجز في مواجهة هذا الكابوس الذي يعيشون فيه.
وقد جاءت المقاطع الأولى من الكتاب لتكون أقل عنفا، ولكنها كانت الأكثر إيلاما؛ وذلك لأنها كانت مملوءة بمشاعر وتنبؤات العراقيين بالمستقبل الكئيب للعراق بعد الاحتلال الأمريكي وتداعياته.
وقد بدأ أندرسون تأريخه لسقوط بغداد في نوفمبر عام 2002، وقال انه كثيرا ما سمع أن العراقيين يكرهون الأجانب، وأنهم متشككون في النوايا الأمريكية، وكانوا يتناقلون عبارات ساخرة بأن الأمريكان جاءوا لاستغلال نفطهم ومواردهم الاقتصادية.
وقد اختار المؤلف أن يكتب تقارير من العراق في حرية نسبية عن القوات الأمريكية، فلم يكن مرافقا للقوات الغازية، ولكنه خاض تدريبا إجباريا مع تلك القوات عن مخاطر الأسلحة البيولوجية والكيميائية، وقد أشار في كتابه عن غاز الأعصاب، وكيف أنه يؤدي إلى الوفاة بمجرد الاستنشاق.
كما تحدث عن العراقيين الذين عينهم نظام صدام حسين لمراقبته، ووصف الحدود التي كان مسموحا له بالتجول فيها ورؤيتها.
وقد رأى أحد المشاريع البنائية لنظام صدام حسين والتي وصفها بأنها بناية (فاخرة)، ولكنه لم يسمح له بتفحصها، فقال لسائقه متعجبا: (أنت تعني أنني وأنت نراها ولكننا سنتظاهر بعدم رؤيتها وأنها ليست موجودة؟) فأجابه السائق بالإيجاب، وكتب أندرسون: (ومن تعبيرات وجهه المتوترة أدركت أنه كان يعني ما يقول).
وقد سرد كتاب (سقوط بغداد) عدة مقابلات مع العديد من المصادر التي وصفها بأنها حذرة وعنيدة، وذلك في فترة ما قبل الحرب، وقد صرح له رئيس تحرير جريدة إيرانية: (بخصوص الهجوم الأمريكي المحتمل على العراق، نحن نعتقد أن ذلك يهدف إلى السيطرة على البلاد التي يمكن أن تكون مصدرا رخيصا للطاقة، والولايات المتحدة قد وضعت أقدامها الثقيلة في المنطقة، بأصابعها في أفغانستان وكعبها في العرق، ونحن في مكان ما في المنتصف، في تجويف القدم، ونحن نتوقع أن تضع ثقلها علينا في أي لحظة، ونحن لا نؤمن في الحقيقة بما تقوله الولايات المتحدة عن الديموقراطية ومحاربة الإرهاب). كما لم يشعر المؤلف بارتياح لكونه أمريكي في بغداد، بالرغم من أنه وصف شعوره بأنه (شعور غريب وقلق) بدلاً من أن يكون رد فعل لمشاعر معادية من العراقيين.
وقد كان مؤلف الكتاب يعمل بمثابة مراقب واقعي للأحداث، بالرغم من أن ما رآه في العراق لم يكن واقعيا، وقد تم دعوته إلى جانب العديد من الصحفيين والمراسلين الأجانب ليزوروا المستشفيات العراقية لمشاهدة الإصابات الوحشية للمدنيين العراقيين، ولم يصف تلك الحالات ولكنه ترك الصور تتحدث عن نفسها، ولم تكن بحاجة إلى تعليق.
وقد اختفت معالم شهيرة من العاصمة العراقية بغداد، وحل محلها حفر عميقة نتيجة القصف الصاروخي، وقد عبر عنها غير مصدق لما يحدث.
وقد اختلطت أصوات الحمير بأصوات الديوك بأصوات صواريخ كروز، إضافة إلى أصوات المدافع الرشاشة الثقيلة من طراز (وورثوج 10) التي تستطيع إطلاق 4 آلاف رصاصة في الدقيقة، والتي كان لها صوت آخر تماما.ويقول المؤلف أن ذلك ليس معناه أنه لم يشعر بالذعر، فقد شعر به، كما يصف بإطناب المخاطر التي تعرض لها كمراسل في خضم هذا الجحيم والأتون المستعر.وقد وصف أندرسون أهم المشاهد في العراق، مثل مشهد تحطيم تمثال صدام حسين، إضافة إلى قصور صدام التي تهدمت وكانت ممتلئة بأشياء كثيرة وحطام، ومن بينها صور للمغنية الأمريكية بريتني سبيرز، ولكن الأهم من ذلك كله هو محادثاته المباشرة مع أبناء الشعب العراقي الذين وقعوا ضحية القصف المتبادل من الجانبين.
كما رأى أفراد من الشعب العراقي يرحبون بقوات المارينز الأمريكية ويهتفون للرئيس بوش، كما أنه التقى بأحد المتبضعين في أحد الأسواق الذي قال له: (يجب عليك أن ترحل، اذهب بعيدا! أنا أكرهك). وإذا كانت مواطن قوة الكتاب قد جاءت في تلك المشاهد، فإن مواطن ضعفه تكمن في تكراره لبعض مشاعر الغضب.
وقد وصف أندرسون مشاعر الحزن الخالصة للمدنيين العراقيين، وقد جاءت مؤثرة بصورة كبيرة إلى جانب مشاعر أصدقاء قدامى له من النظام السابق كانوا يحتلون مناصب مرموقة، والتي كانت أكثر تأثيرا من تكراره لبعض المقولات المرتجلة من العراقيين.
كما أصغى سمعه لأحد العراقيين في الشارع الذي قال له: (إن سلام الشرق الأوسط لا يجب أن يمر فوق ظهور الشعب العراقي وأشلائه، فيجب على الأمريكيين أن ينظروا إلينا على أننا مخلوقات آدمية، ولا ينظرون إلينا فقط من أجل النفط)، وبرغم صدق وعفوية تلك المقولات إلا أنها تكررت بصورة مشابهة على صفحات الكتاب.ومن مميزات كتاب (سقوط بغداد) أنه يتحدث عن الفترة الحالية بدقة شديدة، ويصف فترات قريبة حتى يونيو عام 2004. وبالرغم من أن أحد معارف أندرسون من العراقيين قد اختفى بصورة غامضة، ليكتشف بعد ذلك أنه كان معتقلاً في سجن أبو غريب، إلا أن الكتاب لم يخض في تفاصيل سجن أبو غريب، وربما هذه قصة أخرى، ولكنها أكثر سوءا.
|