تشرفت بتقديم الورقة الرئيسة في ندوة (المصداقية بين الأداء الحكومي والأداء الصحافي)، التي نظمها الإعلام التربوي بوزارة التربية والتعليم، ورعاها معالي الأستاذ الدكتور محمد الأحمد الرشيد، وشاركني في التعقيب والمداخلات النوعية كل من الزميل الدكتور سعود المصيبيح الإعلامي اللامع بوزارة الداخلية والزميل الأستاذ عبدالعزيز العقيلي مدير التحرير المشاكس بصحيفة الوطن.. وربما للفائدة العامة أختزل عدة صفحات عامة من هذه الورقة البحثية.
منذ اختراع المطبعة على يد يوحنا جوتنبرج منتصف القرن الخامس عشر الميلادي والتي ولدت معها الطباعة والصحافة وما تلاها من وسائل إعلام جماهيري، والعالم في جدلية مستمرة تأسست حول علاقة الصحافة بالمجتمع وعلاقة السلطة بالصحافة. وعلى الرغم من التغيرات الهيكيلية في بناء الدولة ومؤسسات المجتمع خلال الخمسة قرون الماضية، إلا أن السؤال يظل محورياً حول موضوع حرية الصحافة. والمفهوم الأساسي لحرية الصحافة free
dom of the press يعني إمكانية النشر بدون رقابة قبلية أو
ترخيص مسبق أو تهديد بعقوبات متوقعة. وتعرضت الصحافة لتنظير فكري ورؤى فلسفية ونقد اجتماعي على مر القرون الماضية، ساهمت في وضع تصورات معيارية عن الدور المتوقع للصحافة والإعلام في المجتمعات الإنسانية. ومن أهم ما نشر في هذا الموضوع كتاب (النظريات الأربع) للصحافة في الخمسينيات الميلادية، وفيه تم تقسيم الإعلام في العالم وفق نظريات سياسية - أيديولوجية، هي السلطوية والشيوعية، والحرية والمسؤولية الاجتماعية.
وخلال العقود الماضية أضيفت نظريتان هما النظرية التنموية ونظرية المشاركة الديموقراطية. وتعرض هذه الورقة لنقاش عن الأسس النظرية والتطبيقات العملية لهذه النظريات. كما تبني هذه الورقة على الأدبيات التي تستعرضها في اقتراح نموذج عن علاقة الإعلام (وخاصة الصحافة) بالمؤسسات الاجتماعية من ناحية، والجمهور من ناحية أخرى.
النظريات المعيارية
النظريات المعيارية هي نظريات تصف وضعاً مثالياً لنظام إعلامي تتحدد فيه الهيكلة والعمليات، وهي لا تصف واقع الإعلام، بل تؤكد على مثالية الإعلام وما ينبغي أن يكون عليه. وتنطلق عادة هذه النظريات من الفلسفة والقيم والأيديولوجيا السائدة في المجتمع، وهي التي تؤسس لنشأة المؤسسات الإعلامية، وتعطيها الشرعية المطلوبة، وتنعكس الملامح الخاصة بهذه النظريات في القوانين والسياسات الإعلامية، ومواثيق الشرف، وأخلاقيات المهنة. وقد ساهم إعلاميون وأكاديميون ونقاد اجتماعيون في صياغة هذه النظريات على مر السنوات والعقود. ومن أشهر الكتب الإعلامية التي صدرت خلال العقود الماضية، كتاب (النظريات الأربع في الصحافة)، والذي شارك في كتابته ثلاثة من علماء الاتصال الكلاسيكيين بعيد الحرب العالمية الثانية (1956م)، وهم سيبرت، بيترسون، وشرام، حيث كتبوا عن النظرية السلطوية، والنظرية الشيوعية، والنظرية الليبرالية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية. وقد أضاف إليها دينيس مكويل نظريتين، هما: النظرية التنموية، ونظرية المشاركة الديموقراطية.
النظرية السلطوية
تمثل السلطوية أول نظرية جسدت العلاقة بين الصحافة والمجتمع، وقد نشأت خلال القرون الوسطى بعد أن ظهرت الصحافة كوسيلة إعلامية في المجتمعات الأوروبية. وحيث إن الريبة والشك كان هو أساس هذه العلاقة، حيث إن الحكومات الأوروبية والكنيسة المسيحية وضعت القيود، وعرقلت مساعي الصحافيين والناشرين في أن يمارسوا دورهم الصحافي في النشر والحصول على المعلومات التي تقتضيها مهنة الصحافة والنشر. وبعكس النظرية الليبرالية، لم تكن هناك أعمال فكرية مؤثرة في أسس هذه النظرية، سوى حالات محدودة. وقد ذكر الكاتب الإنجليزي سامويل جونسون في القرن الثامن عشر الذي برر النزعة السلطوية في قوله: إن كل مجتمع يمتلك الحق في المحافظة على السلام والأمن والنظام العام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يحق للحكومات أن تمنع الآراء التي تمثل خطراً على سلامة المجتمع. وقد عاشت أوروبا لقرنين كاملين تحت هيمنة الحكومات السلطوية إلى أن تحررت من هذا الاستبداد بفعل الفكر التنويري الذي تأسست عليه بناءات وهياكل مؤسسية جديدة. ولكن الفكر والممارسة السلطوية كانت الأساس الذي اعتمدته الدول النامية، وبالذات حديثة العهد بالاستقلال من الاستعمار الأوروبي. وتبنت هذه النظرية كثير من الأنظمة السياسية في دول العالم النامي، التي حرصت على السيطرة والتحكم في وسائل الإعلام من خلال إما فرد أو نخبة سلطوية.
النظرية الشيوعية
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الكتلة الاشتراكية في أوروبا، لم يعد هناك امتداد لهذه النظرية سوى في ثلاث دول من دول العالم، هي الصين، وكوريا الشمالية، وكوبا. وتحمل هذه النظرية أسساً فكرية مبنية على كتابات كل من ماركس وإنجلز على المستوى النظري، وعلى لينن على المستوى التطبيقي. وتتأسس النظرية الشيوعية (إحدى النظريات الأربع في الصحافة وكانت تسمى بالنظرية السوفيتية الشيوعية) على فكرة أن تكون الصحافة والإعلام أداة من أدوات الحزب الشيوعي الحاكم. ولهذا فإن الحزب هو الذي يتحكم تحكماً كاملاً في مجريات الشأن الإعلامي في الدول الشيوعية. وتعمل وسائل الإعلام الشيوعية على تربية الشعب على المسار الاشتراكي، وتقوية القناعات الشعبية بالفكر الشيوعي السائد، ومحاربة الفكر المضاد الذي تمثله الرأسمالية الغربية.
وتتفق النظريتان السلطوية والشيوعية في محورية المجتمع - وليس الفرد - كأساس لتبرير السيطرة والتحكم في وسائل الإعلام. فمصلحة الجماعة وهيمنة الدولة تتجاوز مصلحة الفرد، لكن الاختلاف بينهما يأتي في جانب ملكية وسائل الإعلام، فالنظرية السلطوية تتيح الملكية الخاصة لوسائل الإعلام، بينما ملكية وسائل الإعلام في المجتمع الشيوعي هي من اختصاص الحزب الشيوعي الحاكم.
نظرية الحرية
تنطلق الفكرة الجوهرية لهذه النظرية من كونها تسعى إلى إيصال الحقيقة إلى الناس، وإلى كونها لا تخدم أحداً أو مؤسسة في إطار عملها الإعلامي. ولا تخضع لأي شكل من أشكال الرقابة سواء داخلياً أو خارجياً. وتبنى هذه النظرية على وجود حرية صحافة حقيقة. والمفهوم الأساسي هنا يعني إمكانية البث والنشر بدون أي رقابة قبلية أو متطلبات قانونية لترخيص مسبق أو تهديد وخوف من عقوبات متوقعة. وتقوم الصحافة ووسائل الإعلام بدور ووظيفة (كلب المراقبة) watchdog مما يعني مراقبتها لما يدور في المجتمع ومتابعة أداء ووظائف المؤسسات الاجتماعية الأخرى.
ومع هذا المفهوم، نشأ مصطلح آخر يصف الصحافة بالسلطة الرابعة مما يعني أن سلطة الصحافة تتنافس مع باقي السلطات في المجتمع. وكان إدموند بريك أول من طرح هذا المصطلح في نهاية القرن الثامن عشر، قاصداً بذلك تنامي دور الصحافة في إنجلترا ليواكب الدور الذي تلعبه السلطات الثلاث الأخرى: مجلس اللوردات، الكنيسة، ومجلس العموم.
وقد تتبدل السلطات من مجتمع إلى مجتمع، ومن وقت إلى آخر.. فمثلاً تقلص وضعف دور الكنيسة في المجتمع الأمريكي - على سبيل المثال - أدى لأن تتجسد السلطات الثلاث في السلطة القضائية، والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية التي تمثلها الحكومة. وفي كل هذه الحالات، يبرز سؤال حرية الصحافة الذي يجسد طبيعة وشكل العلاقة بين الصحافة من جهة والمؤسسات الاجتماعية بما فيها الحكومات من جهة أخرى.
وقد ارتبطت حرية الصحافة بالفلسفات الغربية التي نادت بحرية الفرد، وقمع الاستبداد، وعارضت تفرد الآراء. ومن أشهر الفلاسفة الذين كتبوا في هذا المجال جون ستيورت ميل الذي أوضح في كتابه (عن الحرية) أن تخريس الرأي هو سطو على البشرية جمعاء.. ويضيف أن الرأي الذي يتم خنقه إذا كان صائباً نكون قد خسرنا هذا الرأي، وإذا كان هذا الرأي خاطئاً نكون قد خسرنا معركة وميكانيزمات الصراع بين الخطأ والصواب، والتي تولد بالضرورة الرأي الصواب.. وهذا ما عناه جون ميلتون بميكانزمات (التصحيح الذاتي) والتي تعني أن الفكرة الصائبة هي التي تتفوق وتتجاوز الفكرة الخاطئة عندما تتاح الفرصة للفكرتين بالتداول والانتشار. أي أن يطرح فكرة (السوق الحرة للأفكار) كآلية لتداول وصراع الأفكار.
إن حرية الصحافة أول ما نشأت تمثلت في صراع بين الصحافة وشكل من أشكال السلطة، كان في القرون الوسطى هو الكنيسة، ثم تحولت إلى الحكومات. وباختصار فإن حرية الصحافة هي الحرية من القيود، وهذا ما عبر عنه التعديل الأول في الدستور الأمريكي عام 1791م، والذي يؤكد على أن الكونجرس - وهو المؤسسة التشريعية - لا يجب أن يصدر قوانين تتعارض مع حرية التعبير أو حرية الصحافة.
نظرية المسؤولية الاجتماعية
تنطلق هذه النظرية من محاولة إيجاد توازن بين مفهومي الحرية والمسؤولية. ونظراً لتزايد النقد ضد الصحافة مع مطلع القرن العشرين وخلال العقود الأولى منه نتيجة اعتماده على الإثارة والمنطق التجاري، ونتيجة الاحتكارات والانحيازات السياسية لهذه المؤسسات في الولايات المتحدة، تكونت لجنة خاصة للنظر في هذه الأمور بشكل عام، عام 1942م تحت رئاسة هتشنر رئيس جامعة شيكاغو. وقد وضعت هذه اللجنة نصب عينيها مهمة التحقيق في هل أخفقت أو نجحت الصحافة الأمريكية في أداء دورها الاجتماعي، وتحديد أين مواقع الحرية التي ينبغي على الصحافة أن تتوقف عندها، وما تأثير الضغوط الحكومية أو الإعلان التجاري على حرية العمل الصحافي.
وقد أعدت اللجنة تقريرها عام 1947م وفيه عكست نقداً لأداء الصحافة في عدم تهيئة الفرصة لأصوات أخرى غير تلك المؤثرة والمرتبطة بالقوى الفاعلة في المجتمع. وفي هذا التقرير تم استخدام مصطلح (المسؤولية الاجتماعية) لأول مرة وانعكس في تحديد مسؤوليات واضحة ينبغي أن تعمل عليها الصحافة، بما في ذلك إتاحة المجال أمام مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية للتعبير عن رأيها واتجاهاتها حول القضايا العامة في المجتمع. وقد أيقظت هذه اللجنة الحاجة في دول غربية أخرى (المملكة المتحدة والسويد) إلى تأسيس لجان للنظر في أوضاع الإعلام واقتراح حلول عملية في هذا الاتجاه.
للمقال بقية
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
|