Saturday 2nd October,200411692العددالسبت 18 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

المنشود المنشود
الماراثون!!
رقيَّة الهويريني

بعد مرور ثلاث سنوات من التقشف والتضييق على الحال بالأكل واللبس وقضاء المتطلبات الضرورية، وشراء سيارات بالتقسيط! استقرتْ العائلة في مسكنها الجديد مكسوَّا بالرخام من الداخل وبالحجرِ الثمين من الخارج! إنه درَّةُ المساكن في ذلك الحي الراقي! تستمتع العين وهي تجول في أنحائه، فبريقُ الرخام يكادُ يخطف البصر! وجلجلة الصوتِ داخل الصالاتِ وغرفِ الاستقبال توحي بفخامة المكان.
وحين تدلفُ لهذه القلعةِ المخلوطة بالأسمنت والحديد والحجر والرخام تضطر إلى ارتداءِ معطفك! أو تتمنى أن إحدى هذه الستائر تتحول إلى لحافٍ يقيك برد التكييف الذي جعل برجَ الجوزاء يتقدمُ عن موعده ليحل مكان العقارب!!
النمط المعيشي لهذه الأسرة تغير، فمظاهر التقشف، وتأخير جلب الضروريات في وقتٍ مضى قد انقلب -فجأة- إلى إسرافٍ وتبذير.. أمَّا الشكوى والتذمر فهي ثابتة إن لم يكن زاد معدلها وتطورت، فالعاملة المنزلية لا تكفي للمساعدة فلا بدَّ من اثنتين أو ثلاث ووضعت لهن إدارة خاصة وقُسِّمَ العملُ بينهن حسب التخصصات. وحتى السائق أُضيفت له مهامٌ وأعمالٌ أخرى من تقليمٍ للأشجار ومسحٍ للساحة الخارجية وتنظيف للسيارات التي ما زالتْ تُدفعُ أقساطها من عرق أصحابِ هذا المسكن الجميل! وأمسى إقامة احتفالٍ بمناسبةٍ أو بدونها هو ديدن هذه الأسرة شعوراً منهم بأن منزلهم يستوعبُ أعداداً كبيرة من المدعوين، إضافة إلى شكله البهي الذي يسرُّ العيون ويبهجُ النفوسَ، ولكن شرطهم الوحيد في الدعوة (عدم اصطحاب الأطفال) حتى لا يعبثوا بمحتويات المنزل ويفسدوا تحفه ومقتنياته! عجباً، كيف تضيق جنبات هذا البيت الواسع ببراءة الأطفال ولعبهم؟! وكيف تتم المتعة بدون أطفال وقد أُفرِدتْ لهم مساحات بالمنزل باسمهم؟!
***
وما زال برنامج التقسيط -المزعج- مستمراً فحين ينتهي أجلُ قسطٍ يبدءون ببرنامج آخر من مهرجان التزييف والمظاهر أو ما يُسمى بالتقسيط وكأنهم بذلك يطبقون معنى البيت:


كلَّما أنبت الزمان قناة
ركّب المرءُ للقناة سِنانا

وهم الذين أنبتوا القناة وركبوا لها السِّنان، يقتلون أنفسهم بها باعتقادهم أنهم يحققون السعادة! وربُّ هذه الأسرة إذا ما الليلُ أرخى سدوله بسط له همه وفكره من تراكم الديون التي لا يبدد همومها إلا صوت أذان الفجر، واستيقاظ العاملات وانتشارهن في أرجاء المنزل يلمعن رخامه ويصقلن مراياه، وبزوغ الشمس وانعكاسها على أرجاء المنزل هو الفيصل في مستوى النظافة. فسيدة القلعة تستيقظُ من أرقٍ لتذهبَ لعملها وتستنزف طاقتها هناك، وفي نهاية الشهر توزع مرتبها على العاملات وأدوات النظافة وسماد الحدائق الداخلية والخارجية، وجلب مزيدٍ من التحف والكماليات...
وما زال الماراثون مستمراً، فهدفها من العملِ أصبحَ واضحاً وقدرتها على السباق مع الزمن أضحتْ بطيئةً حتى تيقنت أن ساعات تبديد الراتب أكثر من أيام العمل فما تصرفه في ساعةٍ تكون أهدرتْ وقتها وجهدها في جمعهِ أياماً أو شهوراً. ويا سوء التدبير... وضياع العمر!! فالأولاد ليس لهم نصيبٌ من التربيةِ والتوجيه، وصلة الرحم لا تُذكرُ، والصدقة لا بندَ لها!! وبراميل النفايات تغصُّ بالمأكولات التي ضاقت بها ثلاجات المنزل، وعجزت عن طبخه مواقده الكهربائية والغازية، عشر عيون بالموقِدَيْن، وكانت تكفيهم اثنتان لو كانوا يبصرون!!
ألا من وقفة مع النفس؟! هل نحن بحاجة إلى كل ذلك؟ و(بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صلبه) ألا منْ يوقف هذا الماراثون المحموم بالاستهلاك المُزيَّف الذي لا ينتهي إلا بتجديد وتنويع، إن لم يكن (ترويع) باستهلاكٍ آخر!! حين ينام المرء فهو لا يحتاج إلا لمساحةِ مترٍ * مترين إذا سلِم من الأرق بسببِ غمِّ يومٍ مضى أو همِّ يومٍ قادم. وإن لم يسلم فمساحات الأرض كلها لن تُهيئ له الخلود لنومٍ مريح!
والفكرة من السكن هو المأوى الذي يقيك هجير الصيف وصقيع الشتاء، وليس زمهرير فواتير الصيف وحيرة مصروفات الشتاء!!
إن الداخلَ في ماراثون للجري يطمح أن تكون نهايته إحراز قصب السبق والفوز الذي تعقبه الراحة. فهل أصحاب هذا المسكن -وغيرهم كثير- قد وصلوا إلى هذه القناعة؟ أم إن الماراثون مستمرٌ حتى تنقطعَ الأنفاسُ والأوصال وينتهي العمر بين مطرقة الديون المتزامنة مع البناء وسندان الكماليات المصاحبة للسكن والمستمرة بلا قناعة أو انقطاع!
لا بد من النسبة والتناسب في كل الأمور، وحتى في حالة قدرِتك على شراءِ لفة من القماش يكفيك منها أمتار تستر جسدك وما زاد تشويهٌ في شكل الملبس وتبذيرٌ وإسرافٌ!!
والغرف الكبيرة والساحات الشاسعة في هذا المنزل تنبئ عن مضمارٍ للسباق وليس سكناً للراحة. وما الفرق إذاً بين المسكن المؤجَّر الذي يستنزف المرء سنوياً، وبين امتلاكه لمنزلٍ يُشعره بالاستقرار.
***
ضاق ربُّ الأسرةِ بالمتطلبات المتزايدة من أسرته التي تعدَّتْ قدرته الحالية والمؤجلة، وغادرت الابتسامةُ وجهَهُ، وتبعها الوجوم وأمسى يجلسُ وحيداً واعتزل أسرته بعد أن كان يوقد قناديل الفرحِ في البيتِ القديم الصغير حين كانت تُسمَعُ تعليقاتُه وقفشاتُه في كلِّ أرجاء المنزل فيهمل أولادُه ما بأيديهم ويتوافدون عليه ويتحلَّقون حوله. وحين يسترسلُ في الضحك تنتابُه نوبةٌ من السعال، يتقافزُ أبناؤه يحضرون له كوباً من الماء، فلا يدري أيُجامل الكبير فيأخذ كوبَه؟ أم يُرضي الصغير فيشرب من مائه؟ أو يرحم الأصغر الذي أحضر الماءَ وقد انسكب معظمه أثناء الركض!والآن تعاودُه نوبةُ السعالِ إثر تعرضه للبردِ وقد أهمل علاجها -لانشغاله بعلاج داء تراكم الديون- فتجده في سعال مستمرٍ دون أن يشعرَ به أحدُ أفرادِ أسرتِه! فاتساع المنزل لا يمكنُهم من سماعِ صوت السعال! فما بالك بالأنين وقد أحكمَ الدائنون قبضتهم على رقبته!!
ص.ب 260564 الرياض 11342


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved