كالشجرة الضعيفة في خريفه السرمدي يبس وذبل، تساقطت أوراقه، وتآكلت أعواده وجذوره، وانسلخ لحاؤه، كاد أن يهوي في قعر النهاية ويُنسى، على مدى أمسه الماضي المنقرض، تضاءل ببطء وانحسر، كانحسار أمواج بحر عن شاطئه الملوث! في قبوه يعيش مثقلاً بالتعاسة، ومن ذكريات خوال ميتة، وغدا الكابوس غولا يجثم على قلبه كالمس، وازدانت الألوان في ناظريه باهتة مقيتة، تحول عنده الفراغ والملل إلى كائنات هلامية (تزجره) تنهره وتعبث بأوقاته.. تركض بقسوة كلما خلد للسكون والصمت، بخطوات يركض هرباً من جلد الحنين، فكأنه أصبح شمعة منتسية، قد أضاءت لمن حولها ليالي معتمة ثم خبأت وحيدة مقفرة، في وحدته يصارع الوساوس بسخرية، يتجرع الألم بمرارة، يضحك مراراً حتى بانت نواجذه! كأسنان المشط الأبيض، استحضر تلك العبارة. سواسية هم البشر..! لم يعلم لماذا ضحك فجأة؟! ومما يضحك؟! جابه حقيبته السوداء المعمرة، المترعة بالتعب والهموم والغبار، جعلت يده تبعثر وتفسد سكون الأوراق البالية داخل الحقيبة، تلك شهادة لقد تذكرها بعد أن نسيها! يرتد بذاكرته للوراء السحيق، قبل سنوات كان طالباً.. لقد حصل عليها بمجرد أنه دون اسمه مع الراغبين في الارتباط بها! وبعد هزيع من العمر، أنجبت له الجامعة طفلة من ورق بلا ملامح سماها بكالوريوس، لم يجد لها حليباً ولا مهداً ولا مأوى ولا حاضنة، فماتت بمرض اليأس من الحياة! فكان ضريحها تلك الحقيبة، مقبرة الأشياء المهملة، ذرف دموع الحسرات عليها لأيام ثم نسي ذلك، كانت سلواه دائماً بأنها سوف تكون شافعة له يوماً ما، تبسم فجأة وعاوده الحنين لسنواته الماضية، تلك ورقة حمراء تنبعث منها رائحة الأوقات الجميلة، ضريبة لصب بائد مضرج بالدموع والشوق والتنهدات، طواها بخفة أعادها إلى مرقدها الأخير، هوى أخيراً برأسه المثقل بالهموم على وسادته الأليمة، مدد جسده، تحسس بيده الشيب الذي رآه بالأمس يتطاول ويتكاثر على أديم رأسه، ثم هرع إلى حيث تنام الأفكار، أيقظ فكرة من سباتها، قرر أن يستمتع بصباه مجدداً، وأن يستحث بقايا من معنوياته المثبطة.. وأن يسترجع قدرته العجيبة على تسلق الأشجار عندما كان صغيراً.. انزلق بعد تنفيذ الفكرة في درب التشبث بالأشياء القوية، والصعود المنظم، فقد نحر خرافاً عديدة، وسكب جرارا من العسل المُصفى، وقبل الأذرع المطاطية بنهم (وأولم كثيراً) في كرنفالات رائعة خلقها للتمظهر.. حتى يرى مكانه! مكث يقاتل بلسانه ويده وعقله لسنوات عديدة، حتى سالت دماء وجهه في دهاليز الغباء المتجذر.. أيقن أن كل ما كسبه مجرد خيوط دخان واهنة.
|