Wednesday 29th September,200411689العددالاربعاء 15 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

يارا يارا
سياحة داخلية
عبد الله بن بخيت

كلنا كنا مطمئنين على سلامة موقفنا الأخلاقي.. حتى لو عرضتها على أعدل القضاة سوف يجد أن الطريقة التي انتهجناها في التخلص من تلك الغنمة كانت ضرورية.. صحيح أنها طريقة شاذة تنطوي على أهداف شخصية.. إلا أنها الحل الوحيد الممكن.. الغنمة عاقر ولا فائدة تُرجى منها، ووالد صديقي يرفض تصديق ذلك، ويريد أن يستولدها بأي ثمن.. والغنمة كائن حي لا يمكن أن تعيش بلا مصاريف وخدمات.. ولو توقف الأمر عند هذا كان يمكن الانتظار حتى يقتنع، ولكن ابنه لا يمكن أن يتحمَّل خدمة غنمة، لا فائدة تُرجى من ورائها.. كل يوم يذهب لإحضار العلف، ويقوم بتنظيف الحوش، وإحضار التيوس وغيرها من الخدمات التي تتطلَّبها الغنمة.. ينفذ تعليمات والده.. أحياناً يكون عندنا مباراة هامة، وفجأة ينتصب والده بيننا ويمد له ريالاً ويقول: عجِّل وأنا أبوك رح جب العلف.. يحرمه من إكمال المباراة.
استمر هذا الوضع أكثر من عام.. كان الولد صبوراً ومتجمِّلاً.. لم يكن السيل ليبلغ الزبى حتى جاء ذلك الرجل إلى دكان هاشم، وطلب بيبسي وجلس، وبعد قليل دخل معنا في الكلام والسواليف.. عرفنا أنه من سكان الشرقية.. بدأ يسرد الأساطير.. حدَّثنا أولاً عن البحر.. قال: كل قلبان الرياض لا تساوي قطرة في البحر.. لم نصدِّقه، ولكننا آمن بالله.. ثم تحدَّث عن التلفزيون بحديث مطوَّل، فتعثَّرت أخيلتنا في تصوُّر شكله وماهيته.. تعب الرجال من شرح فكرته حتى يئس.. كان الأجدر به أن يتوقف عند هذا ويكمل ببسيته ويرحل.. لكن الرجل تمادى ودخل في المناطق المتفجرة.. أصغر المستمعين عمره اثنتا عشرة سنة وأكبرهم أربع عشرة.. يطرقون باب الرجولة بعنف وبقلة صبر.. البحر والتلفزيون يثيران الدهشة والفضول، وربما الشوق، لكن لا علاقة لهما بالكيمياء المتلاطمة في الجسد.. بعد أن أكمل حديث البحر والتلفزيون انزلق لسانه بفرض من طبيعة السرد الأزلية إلى النساء.. كان حصيفاً ومتفهماً لطبيعة جمهوره الصغير.. لم يقفز إلى الأمريكانيات المتشمِّسات على ضفاف شاطئ نصف القمر دفعة واحدة.. فقد تعلَّم من الدقائق السابقات أنه يقف أمام جماهير لها خصوصيتها، وهو من الرياض أصلاً، ويعرف أن أجمل امرأة تحتويها المخيلة المشتركة، لا تتعدى بائعة البيض في مقيبرة.. وبائعة البيض لا يخرج منها سوى ذرعانها البيضاء الممتلئة.. بدأ من هنا ثم عرج على المغنيات والممثلات اللاتي تأتي صورهن مع العلوك.. وهكذا تمَّت تهيئة المسرح.. فعرفنا الأمريكانيات الشقراوات، وعرفنا أنهن يتشمَّسن على شاطئ نصف القمر.. وعرفنا ما يجب أن نعرفه، بل عرفنا أكثر مما نتمنى أن نعرفه.
لم تكن الصدفة هي التي تقود الأحداث وإنما سياق الحياة الطبيعية هي التي أرادت أن تنضج الأشياء على نيران مختلفة.. في الوقت الذي تحدَّث فيه الرجل عن الأمريكانيات.. كان صديقنا في أقصى درجات تذمره من وجود الغنمة في حياته.. فتداخلت المشكلتان في مشكلة واحدة.. كأنما تقرر أن تكون إحداهما حلاً للأخرى.. ذهب الرجل، وتفرَّقنا ،ولكننا لم ننم تلك الليلة كما كنا ننام في السابق.. لقد أصبح البحر جزءاً من أحلامنا التواقة النشطة.. تجمَّعت الأسباب، وبدأت تتضافر، وتهيئ للقرار التاريخي المزدوج.. خصوصاً أنه سبق لنا أن شاهدنا القطار، وتمنينا أن نركبه.. بدأت أفهم أن الإرادات الصلبة تأتي من تراص الأماني بعضها فوق بعض.. كانت الأمنية الأولى أن نركب القطار أو الطيارة.. أمنية ضمن الأماني العامة.. لا تستطيع وحدها أن تعزز الإرادة.. وكان بنا شوق للحب، ولكن لا يمكن أن يربط القلب بين الرغبة في ركوب القطار والرغبة في الحب.. أمنيتان متباعدتان.. ثم أخيراً جاء البحر فوحَّد بينهما.. فتكوَّنت أربع أماني تتراص بعضها فوق بعض.. الأمنية الأولى: ركوب القطار، الأمنية الثانية: مشاهدة التلفزيون، الأمنية الثالثة: مشاهدة البحر، الأمنية الرابعة: مشاهدة الأمريكانيات المتشمِّسات على شاطئ نصف القمر.

فاكس: 4702164


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved