نوافذ
المعرفة
أميمة الخميس

منذ أن ابتعت دائرة المعارف البريطانية من بريطانيا، وهناك كتاب يُبعث لي كل عام على عنواني البريدي تحت مسمى (world progress)، وهو كتاب يحوي جميع المتغيرات والمتبدلات والتطورات التي طرأت على المعلومات الهائلة التي يحتويها أربعة وعشرون مجلداً ضخماً من المعارف.
طبعاً المتغيرات تطال جميع جوانب المعرفة، معادلات جديدة، قوانين، حدود، مواثيق اتفاقات، حروب.. وجميع ما يبرز الدورة الكونية المتبدلة بسرعة هائلة.
فالعلاقة هنا مع المعلومة ليست علاقة أزلية ومقدسة وثابتة، بل تبقى خاضعة للتبدل والتغير وصيرورة التعاقب الكونية التي تجلب كل يوم شمساً جديدة.. ونهاراً جديداً.. وبالتأكيد واقعاً مغايراً عن الذي كانه أمس.
العلاقة مع المعلومة وكيفية الاشتباك معها وخلق علاقات مباشرة وغير مباشرة مع سواها من المعلومات تحدد بالتأكيد طبيعة الحضارة أو الثقافة التي تمثلها، فعلى حين أنهم في الغرب روَّضوا المعلومة وأخضعوها إلى التجريب والسؤال، وساقوها إلى المختبر وأنابيب التحليل.. بينما نحن نظل نتعامل مع المعلومة بشكل دوني، فهي تطل علينا من عليائها بتكبر وصلف، ونحس بالصَّغار تجاهها، ونعجز عن الاشتباك معها بشكل متحدٍّ ومستفزٍّ، فهي إما معلومة تراثية نخاف من الاقتراب منها نتيجة لوجود (عصابة) يدعون المحافظة على التراث ويسارعون إلى تصفية جميع من يحاول الاقتراب عبر دروب تغاير دروبهم، أو هناك على طرفي نقيض معلومة أخرى قادمة من منجز حضاري متطور ومهيمن، ونظل أيضاً ننظر له بنوع من الخشية والخوف نتيجة للتفاوت الحضاري الكبير بيننا وبينهم.
هذا الموقف المتخاذل من المعلومة يطبع ثقافتنا ببصمة قوية، ويكبلها بقيود عجزت أن تتجاوزها سوى بعض الأعمال الطارئة هنا وهناك...
وهذا يذكِّرني بالخليفة العباسي الذي أُرسلت له مجلدات كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي من الأندلس، فوجد أن هذه المجلدات الضخمة ليست سوى نسخ غير مباشر للموسوعات التي ظهرت في بغداد آنذاك، (ككتاب الأغاني للأصفهاني، وبعض من كتب الجاحظ)، فقال: (هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا)، بعد أن عجز ابن عبد ربه الأندلسي أن يطور أدوات معرفية جديدة ومختلفة ومطعمة بدماء جديدة ونابضة تعبر عن التجربة الحضارية الفريدة للعرب في الأندلس. وهو يشير بشكل فطري إلى أحد أهم الخصائص الثقافية التي تتشكل بها حضارتنا.. وما زالت.. وهو النقل الحرفي الأمين للمعلومة، دون الاشتباك معها ودون اكتشاف علاقات جديدة بداخلها، دون استجوابها واستنطاقها لتقول ما لم يقله التاريخ وسكت عنه الرواة.
وتظل بضاعتنا ترجع وتعود إلينا في (استاتيكية) سكونية.. عاجزة عن الانعتاق من ذلك الخوف والذل التاريخي والمعرفي للمعلومة.