كلما أوغلت الأمم في الماديات، وحقق علماؤها مزيداً من الاكتشافات في الآفاق وفي الأنفس، أعاد علماء (المعارف النظرية) قراءة مسلّماتهم. وثورة المعلومات والاتصالات هزت يقينيات كثيرة، وغيّرت ترتيب الأولويات، وشفَّت عن معميات بطأ بها اختلاف المفاهيم واختلاط الأصوات. وإذا كانت المرجعية مترددة في مشروعية التفاعل المنضبط مع المستجد، كان احتمال تجاوزها ممكناً. والمؤسسة الدينية بوصفها المهيمنة إن لم تتمكن من تجديد مناهجها وآلياتها ومجال تناولها، أصبح من الصعوبة بمكان احتمالها لمواجهة المستجدات المتلاحقة. ولأن القرآن الكريم من عند الله، ومبلّغه لا ينطق عن الهوى، والكون كله خلق الله، فإن محكم التنزيل وصحيح السنة قادران على استيعاب النوازل. وما يتبادر إلى الأذهان من تفاوت فإنما مرده إلى عجز المتلقي، أو إلى خطأ التأويل. فالنوازل تتطلب مبادرة وقدرة، لاستنباط حكمها من النص الذي يحتمل أكثر من تأويل، ويستجيب لأكثر من نازلة، ويتسع لأكثر من رأي، وطبعي أن تجعل الثورة المتعددة المثيرات وضع المثقف معقّداً ومهمته عصيّة. ومهما حاول ترويض نفسه، وتطويع واقعه فإن الأمر جد عصي.
وكيف لا يكون وضعه عسيراً، وهو يعيش وسط متغيرات: اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويعايش ثورة معلوماتية، ويغالب مذاهب وتيارات فكرية ودينية ذات مناهج متعددة، ومقاصد متنوعة، وتتنازعه (ايديولوجيات) متناقضة، الأمر الذي ضاعف مسؤولياته، وعقّد أوضاعه، ومما يصعّد إشكاليته أن الوضع المعاش وضع مضطرب، تسوده القوة، وتقمعه الغطرسة، ويثنيه عن عزماته الاستبداد، ويقعد به تسلط القوي على الضعيف من الأناسي والدول. حتى لقد لجت تلك الكوابح في عتو ونفور، لتضعه على مفترق طرق، بحيث لا يعْرف معها أين المفر. فيما لا تزال بعض الرؤى المستشرفة للمستقبل متعثرة بعقدة الأبوية وألوهية الهوى وذهاب كل معجب بما يرى. وفي ظل هذه الظروف فهي أحوج ما تكون إلى مطابخ مؤسساتية بما تملكه من مجسات ومسابير واستشارة واستخارة لكي تهدئ الروع، وتبعث الثقة، وتحْسم الفرقة، وتقر في الأذهان صائب الآراء وصحيح المفاهيم. وفي ظل هذا الواقع المأزوم نسلت مذاهب وتيارات، ونجمت على إثرها صحوة عقلية واعية، حفزت المؤسسة السياسية إلى التحرف الصادق لمواءمة المستجد. ولما كان المثقف أول الفاعلين، وأسرع المتأثرين، وأشد المأزومين بهذه التحولات: العلمية والسياسية والاجتماعية والفكرية والأدبية والثقافية، فإن مسؤوليته تزداد اتساعاً وتعقيداً، ورؤيته تشتد اضطراباً وتردداً، وليس من السهل القول في الحقوق والواجبات، دون سبر الأغوار ورصد الآفاق.
والحقوق والواجبات في ظل هذه المتغيرات تتبدل ويتبدل معها تراتب الأولويات. والقول فيها لا تتحقق معه الجدوى بالاستدعاء المجرد، بل لابد من إرجاع البصر والبصيرة في التليد والطريف، إذ لكل زمان خطابه. وما أضاع الفرص إلا الثبوتية والتكرار. ومع مشروعية القول في عموميات القضايا وكلياتها فإن المواءمة دأب العالمين ببواطن الأمور. ولا مراء في أن حفظ التوازن أولى خطوات التخطي. وما استعصى على قوم منال إذا أسسوا بنيانهم على القيم الحضارية اليقينية الثابتة، ووطؤوا لذلك بتحديد المطلوب، وتحرير المفهوم، والخلوص من غبش التصور واضطراب الرؤى. وما أوهى اللقاءات الحوارية إلا ذهاب كل متحدث بما يرى، دون إفساح المجال للآخرين. وأحسب أن النفي والمصادرة والتهميش وواحدية الخطاب لا يتسع لها عصر المؤسسات والمجتمع المدني.
والتعايش الواعي مع المستجدات: محلياً، وعربياً، وإسلامياً، وعالمياً، يكشف عن مسلّمات وثوابت ليست على شيء من المشروعية، ومع ذلك فإن المساس بها مدعاة لإثارة (الرأي العام) الذي تشكّل عفوياً على هذه القناعات، ولم يعد بالإمكان ممارسة التصحيح والإصلاح دون تحرّف حذر، يعتمد الحلم والأناة وطول النفس والتحول المرحلي.
ومن حق (الرأي العام) الذي تشكّل في ظل ظروف غير سوية، ألا يواجه بالحقائق عارية من المداراة والاتقاء واللين والتراخي. ولقد أشار الذكر الحكيم إلى نتائج اللين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فسواء غفل المثقف عن (الرأي العام) في مراحل التشكل، أو أسهم في تشكيله الخاطئ فإن على النخب المثقفة بوصفهم دعاة مصلحين كفلاً من المسؤولية. وتنصل الخطاب السياسي أو الديني أو الثقافي من المسؤولية مؤذن بتسلل خطاب متربص، ينساب كالخدر، ليعمّق المأساة، ويعقّد الحل. و(الرأي العام) حقيقة ماثلة في كل المجتمعات: المدنية والبدائية. وإذ تكون كينونته تطورية، وليست انبثاقية، فإن مسؤولية المتحكمين في شأنه ألا يتصوروه إناء يفيض بالرؤى، وأن بالإمكان إفراغه الفوري من محتواه وملأه بالمراد. إن الجهد والوقت اللذين استغرقهما (الرأي العام) في تشكّله وأخذ وضعه مساويان للجهد والوقت اللذين يتطلبهما المصلحون لتحويل مساره، وتغيير تصوره، وتحديد مواقفه من الأشياء حين يتعلق الأمر بالمتغيرات السياسية بوصفها لحظية، مصلحية، وليست موقفية. حتى لقد عرّفها البعض بأنها:-(فن الممكن) تكون مفاجآتها التحولية عقبة دون الاستيعاب والاستجابة الطوعية. وقدر المثقف المأزوم اختلاط الأصوات السياسية والفكرية والدينية والإسراف في (الأدلجة) والتسيس لكل المشاهد.
وحين نحاول استبيان (حقوق المثقف) و(دوره في التنمية) في ظل هذه الظروف، يجب أن ننظر أولاً إلى الحيز الأدائي الذي يشغله إلى جانب المؤثرات الأخرى المسهمة معه في تشكيل الوعي الجماهيري، كالمؤسسات: التربوية والإعلامية والدينية والمعلوماتية، بوصفها شخصيات اعتبارية متشكلة من منظومة بشرية متخصصة، تتوفر على قسط كبير من الثقافة، ومن لم يحسب لثورة المعلومات والاتصالات ما يليق بها أدركه الغرق في طوفانها.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد القول في (الحقوق) و(الواجبات) بوصف الدور المؤمل من المثقف في التنمية عين (الواجبات): مَن المثقف؟ ومَن الذي يملك تحديد الحقوق وتفعيلها وحمايتها؟ ما نوع التنمية التي يمكن أن يسهم المثقف في تفعيلها؟ أهي خطط التنمية المتداولة؟ أم هي تنمية معنوية، تتحقق معها ثقافة المجتمع المدني المتجه صوب التشكل المؤسساتي؟ وفي ظني أن إثارة التساؤل لتحفيز الانتباه غير كافية، بل لابد من التحديد والتحرير والتأصيل. تحديد المجال، وتحرير القضية، وتأصيل المعرفة. ولو مضينا في تقصي ذلك، لخضنا في بحر لجي من الاختلافات. ويكفي أن نشير إلى أن (الثقافة) مصطلح لم يعد جامعاً مانعاً، فما توصّل أحد بعد إلى تحديد مفهومه. وما أكثر المصطلحات السهلة الممتنعة، التي لا تبرح المعهودات الذهنية، يتصورها المهتم، ولا يقدر على تحديدها أو تفسيرها، وإن فعل فإنه كمن فسّر الماء بعد الجهد بالماء، ويأتي على شاكلة (الثقافة) (الحب) و(السعادة) و(الجمال) و(الشعر). واضطراب المفاهيم لا يشكل عقبة في طريق المستدعين لمثل هذه المصطلحات. وليس مهماً التوصل إلى مفهوم دقيق محدد مادام أن المعهود الذهني كافٍ للإجابة على الأسئلة الأولية.
ومصطلحات (الحقوق) سواء كانت مضافة إلى (الإنسان) أو إلى (المرأة) أو إلى (المثقف) أو إلى (العمال) أصبحت لوثة ألسنة ومزلق أقلام. ولقد وسعت المجتمعات المدنية منظمات ومؤسسات وروابط ونقابات، تدافع عن حقوق الإنسان والحيوان. ولم تكن (حقوق المثقف) صارخة ولا فاقعة اللون كما هي في (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) على سبيل المثال. وليس هناك ما يمنع من التفكير الجاد بالحقوق مضافة إلى أي فئة، فهي من متطلبات (المجتمع المدني) وليس بالإمكان التشكل المجتمعي بمعزل عن العالم، ولاسيما أنه بسبب المكتشفات وتطور (التقنية) أصبح قرية صغيرة متفاعلة. وخيارات التجانس والتعايش والتعاذر خيارات صعبة، لا تقل صعوبتها عن خيار التدابر والتنازع والتدافع والأثرة. إذ كل فعل له رد فعل مساو. وقانون التحول المجتمعي نافذ، شئنا أم أبينا، وأولى لنا أن نستشرف المستقبل، وأن نحدد الحقوق والواجبات لقادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد النهضة، مثلما نحددها للنساء والعمال والحيوانات، وما لم نستطع استبانة الطرق، تفرقت بنا بنياتها.
ومن الخير لنا أن نعي المراحل الحساسة، مراحل التحول الحتمي، فإذا تمنعنا عن الاستجابة أو ترددنا معتمدين على عقدة الأبوية فاتنا الركب. وإذا ترددنا معتمدين على اضطراب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات وحجم اليقينيات والقطعيات وقعنا في إشكالية التنازع. وإذا سهل انقيادنا للآخر الأقوى في مادياته وراهنه، ولم ننظر إلى مواقع إقدامنا دخلنا مرحلة المسخ والاضمحلال. إذاً فالمعادلة صعبة، والإقدام والإحجام يقتسمان الخطورة والأهمية. والرأي السديد لا يعتمد الثنائية الصارمة في مجالات الفكر، بحيث لا تكون هناك مناطق وسط. وعلى ضوء ذلك فليس هناك إقدام محمود على إطلاقه، ولا إحجام مذموم على إطلاقه، وإذ تكون هناك قطعية: ثبوتية ودلالية، تكون هناك ثوابت ويقينيات. والقواصم في تضارب المفاهيم حول الثوابت والمتغيرات، وقدرنا الحميد أن لنا حضارتنا بكل سموقها ونديتها وتأثيرها على سائر الحضارات وإرثها لكل ما سبق منها، وتجاربها الناجحة على كل المستويات. وفي ظل هذا القدر المقدور، فإن استقبال الآخر دون شعور بأحقية الكينونة المتميزة يعني الذوبان، وليس من لوازم ذلك إقصاء الآخر، أو الاستغناء عنه. ولو فعلنا ذلك لوقعنا بما وقع فيه (اليهود) من دعوى نقاء (العنصر) و(المعتقد)، وفي ذلك إخلال بمتطلبات (عالمية الإسلام) ومرونته وتفاعله.
ولأن المثقف يمثل شريحة متميزة وقليلة في المجتمع - أي مجتمع - كان لابد من مقاربة مفهوم (الثقافة) و(المثقف) وتبيّن دوره في الحياة كافة، وفي التنمية على وجه الخصوص، ولاسيما في زمن الخلطة الفكرية والتواصل الجبري عبر القنوات ومراكز المعلومات. والحقوق أي حقوق تكون عامة للإنسان بسبب آدميته، وللمسلم بسبب إسلاميته، وللمواطن بسبب مواطنته، وللمثقف بسبب ثقافته. و(حقوق المثقف) مجال الحديث هي تلك الحقوق التي لا يشاركه فيها غيره. فحق الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص والأمن حقوق مشتركة لكل مواطن، وليست للمثقف وحده. وتكريم الإنسان، وتمكينه من تحقيق الخلافة في الأرض حق مشترك للمثقف ولغيره من الأناسي.
إذاً فالحقوق التي ينفرد بها (المثقف) دون غيره من شرائح المجتمع سواء استحقوها بالإنسانية أو بالإسلامية أو بالمواطنة أو بالفئوية أو بالنوعية تحتاج إلى تحديد وتوصيف. وكم نسمع ب(حقوق المرأة) وهذه حقوق نوعية، ونسمع ب(حقوق العمال) وهذه حقوق فئوية، ونسمع ب(حق المسلم) على المسلم وحق الجار وذوي الرحم، وتلك حقوق إضافية. وهناك حقوق وضعية عارضة ك(حقوق المسافر) و(المعوَّق)، وحقوق أخلاقية ك(حق الطريق). ولن نمضي في استقصاء أنواع الحقوق إلا بقدر ما يساعدنا على تحرر مصطلحاتنا ذات العلاقة.
ولعل أولى هذه الحقوق (الحرية) وهي وإن كانت حقاً عاماً إلا أنها ذات خصوصية في جانب المثقف. فالمثقف يحتاج إلى لون خاص من ألوان الحرية، لأنه يعالج الأفكار والآراء والتصورات، ويبدي رأيه في الثوابت والمتغيرات على كل الصعد، يفعل ذلك لأنه يرى أن مسؤوليته في أن يرسم للأمة طريق الخلاص، وهو بسبب ممارسته القولية واقع تحت طائلة سلطات متعددة: سلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة الدولة، ولكل سلطة حقها في مساءلة المثقف حين يواجه القضايا العامة أو الخاصة، وليس هناك أصعب من تحديد الحرية تحت طائلة السلطات الثلاث. وكثير من المثقفين يطلقون لأقلامهم وألسنتهم العنان، ويصرون على أن من حقهم أن يقولوا ما يشاؤون، متى شاؤوا، وفي أي قضية تعن لهم. وقليل منهم من يفهم الحرية على وجهها، ويتصور المجال بكل أبعاده وحدوده. وللمفكرين آراء متضاربة حول (مفهوم الحرية) ومقتضياته ومجالاته. ومن الخير للمثقف المسلم أن ينطلق من المفهوم الإسلامي للحرية، ذلك أن بعض الرؤى الغربية ترى أن سلوك الفرد حيال الآخر محكوم بالقانون الوضعي المتفق عليه، فيما يكون سلوكه حيال ذاته مطلقاً لا يحكمه قانون، ولا تحده قيم، ولا تضبطه أعراف، والرؤية الإسلامية لا ترى ما يراه الغرب. ولكل حضارة رؤيتها، ولا مشاحة مع الاصطلاح، وإذا كانت الطرق كلها تؤدي إلى المراد، فليس هناك ما يمنع من تعددها واحترام هذا التعدد.
(يتبع) |