«نشأة النحو» (الحلقة الثانية)
تحدثنا في الحلقة الماضية عن نشأة النحو، وعن الباعث الأول لتدوينه، وذكرت ان سيبويه قد وضع كتابا في النحو سمي (الكتاب) ولا يزال العمدة والمرجع لكل باحث في هذا الفن، وفي (الكتاب) الف وخمسون شاهدا معروفا، استشهد بها النحاة واحتجوا بها، لأنهم واثقون بدقة النقل وصحة التحري، فقد كان سيبويه، كاستاذه الخليل، دقيقا في بحثه أمينا في نقله وتحريه مفرطا في القياس، لأنه الأساس الذي يقوم عليه وضع القواعد النحوية والصرفية.
(ولسيبويه طابعه المتميز به وشخصيته التي يحس بها قارئ كتابه، فقد استوعب ما نقل ودرسه وتمثله، وناقشه وحكم عليه، فكثيراً ما نجد في كتابه: قال فلان كذا والقياس كذا، وقال النحاة كذا والصواب خلافه، وحسبك ان تجد بابا خاصا نقد فيه النحاة وبعض ما ذهبوا إليه) من تاريخ النحو ص114 للاستاذ سعيد الافغاني. وقد نوه به النحاة تنويها عظيما ومن ذلك قول المازني: (من أراد ان يعمل كتابا كبيرا بعد كتاب سيبويه فليستحي).
وقال الجاحظ: «أردت الخروج إلى محمد بن عبدالملك (الزيات وزير المعتصم) ففكرت في شيء أهديه إليه، فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، وقلت له: أردت ان أهدي إليك شيئا، ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال ابن عبدالملك: والله ما أهديت إلي شيئا أحب إلي منه».
وقال المبرد وهو صاحب مدرسة البصرة:
(لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه).
(وكتاب سيبويه -كما يقول الدكتور شوقي ضيف- لا يعلم العربية وقواعدها فحسب، بل يعلم أيضا أساليبها ودقائقها التعبيرية، فهو لا يسجل القواعد فقط، وإنما يفكر في العبارات ويلاحظ ويتأمل ويستنبط خواصها ومعانيها بحسه الدقيق المرهف) المدارس النحوية ص77.
والكتاب يقع في جزءين والباحث فيه يحتاج إلى شيء من الروية والأناة والصبر لأنه ألف وبوب على غير تأليفنا الحديث، وأحب ان أنقل لك شيئا منه لتقف على طريقته:
(هذا باب ما يحتمل الشعر): وهو ما يعبر عنه اليوم «يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره» اعلم انه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام، من صرف ما لا يتصرف يشبهونه بما ينصرف من الأسماء، لأنها أسماء كما انها اسماء، وحذف ما لا يحذف يشبهونه بما قد حذف واستعمل محذوفا كما قال العجاج: قواطناً مكة من ورق الحمى.
يريد الحمام وكما قال خفاف بن ندبة السلمي:
كنواح ريش حمامة نجدية
ومسحت باللثثين عصف الاثمد وكما قال:
دار لسعدى اذه من هواكا.
وقال:
قطرت بمنصلى في يعملات
دوامي الأيد يخبطن الريحا
وكما قال النجاشي:
فلست بآتيه ولا استطيعه
ولاك اسقني ان كان ماؤك ذا فضل الكتاب ج1 ص8
|