يحدث أن يشتكي البعض من آلام غريبة في مفاصل القدم دون أي أسباب ملموسة، لذلك عندما يذهب لمراجعة طبيب العظام يخبره بأنه يعاني من (الألم الحثلي في القدم)، فما هو هذا الألم الحثلي؟ ولماذا يصيب مفاصل القدم دون غيرها. وما هي أسبابه وأعراضه ووسائل تشخيصه وعلاجه؟
د. سعادة سعد استشاري جراحة العظام بمستشفى الحمادي وعضو الجمعية الفرنسية لجراحة العظام يجيب عن هذه التساؤلات، فيقول: الألم الحثلي في القدم مرض مجهول السبب حتى الآن، وهو يصيب كافة الأعمار، وخاصة الوسطية منها (50 سنة)، وإصابة الرجال أكثر من النساء، في حين أن إصابة الأطفال به نادرة الحدوث. وهو يصيب المناطق المفصلية عموماً، لكن إصابة القدم به هي الأكثر شيوعاً بين إصابات مفاصل الطرفين السفليين. وتتوضع الإصابة المفصلية الأولى عادة في منطقة مفصلية واحدة، كأن تصيب مقدم القدم (الأمشاط والأصابع)، أو الرضع الأوسط أو الخلفي، أو عنق القدم، وقد تمتد لاحقاً لتشمل القدم بأكملها. أما الإصابة السريرية الأولى لعدة مناطق مفصلية وبشكل متزامن فهي حالة استثنائية جداً إن لم تكن معدومة. ولكن الحالة الحثلية هذه قد تتوسع وتمتد لتصيب تدريجياً مناطق مفصلية أخرى في نفس الطرف أو الطرف المقابل بنسبة 20% من الحالات، وغالباً ما تظهر الإصابة السريرية الثانية بالمرض بينما تكون الإصابة الأولى في حالة تطويرية. وأحياناً يكون التوسع أو الامتداد الحثلي بشكل تكشفه الأشعة (تحت السريري)، وأحياناً تكشفه التفريسة الومضانية (scintigraphie) (تحت الشعاعي)، وعادة لا يحصل انتكاس في نفس المفصل بعد العلاج والشفاء، وإنما قد تحدث إصابة في مفاصل أخرى.
ورغم أن السبب الحقيقي للمرض مجهول حتى الآن، إلا أن الأسباب التي تساعد على ظهور المرض عديدة، ومن أهمها:
1- الرضوض: وهي مسؤولة عن 60 - 80 % من الحالات، ولا يشترط في الرض أن يكون في القدم، فقد يكون في أي مكان في الطرف السفلي في نفس الجهة، أو في العمود القطني والحوض، وكذلك لا يشترط في الرض أن يكون عنيفاً، فقد تختلف شدَّته من رضٍّ بسيط أو عنيف وحتى الكسور، كما أن التثبيت الجبسي المديد بعد الرضوض العنيفة أو الكسور، وكذلك إعادة التأهيل المبكر أو العنيف بعد إزالة الجبس يساعدان على ظهور المرض.
2- بعض الأمراض العصبية، ومنها: التهاب العصب الوركي أو الفخذي، داء المنطقة، غيلان باريه، باركنسون، فالج شقي، التهاب جذور عصبية... إلخ. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمداخلات الجراحية على العمود القطني أو في الحوض الصغير.
3- أسباب منوَّعة من حيث الشيوع، ومنها: الحمل، السكري، الإنتانات، النقرس.
4- قد لا يوجد أي سبب واضح (أشكال خفية المنشأ)، وفي 30% من الحالات يظهر المرض على أرضية عصبية - إنباتية مضطربة، شخصية عصابية تعاني من القلق أو الاكتئاب.
وحول كيفية نشوء المرض يقول د. سعادة: كيفية نشوء المرض أو ما يُعرف بالفيزيولوجيا الإمراضية غير معروفة بشكل كامل، ولكن النظرية الودية الانعكاسية هي الأكثر قبولاً اليوم؛ لأنها تفسِّر معظم الحالات المنضوية تحت اسم ألم حثلي. وتعتمد النظرية الودية على وجود منبِّه محيطي (اعتداء) - كرض أو أي آفة حادة - يؤدي إلى حدوث تضعضع في النظام العصبي الودي يتظاهر بشكل تشوش وظيفي مهم مع فرط فعالية. وبعد فترة كمون تلي هذا الاعتداء، وتختلف مدتها بين حالة وأخرى، يتكون قوس انعكاسي يستعمل الدارة الودية، ويسبب في المحيط التظاهرات المرضية في المناطق المفصلية، وذلك بتأثير فعلين: الأول مباشر؛ حيث يوجد للنظام العصبي الودي تأثير نمائي مباشر على العظام والمحافظ المفصلية والأوتار والعضلات. والثاني -وهو الأهم- وعائي حركي، ويمرُّ بطورين: توسع وعائي في الأشهر الأولى، ثم تضيق وعائي فيما بعد، مما يؤدي إلى حدوث خلل وظيفي في الدوران الصغير للمنطقة المصابة، وهو تأثير قابل للتراجع. وفي جميع الأحوال فإن التشخيص يعتمد على حزمة من البراهين السريرية بشكل خاص، ولا توجد علامات نوعية. والتشخيص قد يكون صعباً أحياناً، فالشكل الكلاسيكي أن المرض يمر بطورين أساسيين:
الطور الأول يستمر من بضعة أسابيع إلى بضعة أشهر، ويتظاهر خلاله بألم مع وذمة (علامات التهابية كاذبة) وعجز وظيفي صريح، ويسيطر الألم على المشهد السريري، ويبدأ بشكل محتمل ويتفاقم تدريجياً في 86% من الحالات على شكل ألم دائم مؤرق، ولكنه يتفاقم بالجهد، قد يكون موضعياً، ولكنه غالباً ما يتجاوز حدود المنطقة المصابة ويسبب قساوة مفصلية، كما أن جس وتحريك المفصل يفاقم الألم. والوذمة قد تكون موضعية، ولكن غالباً ما تكون شاملة للقدم، وقد تصل حتى الثلث السفلي للساق، وهي وذمة انطباعية تزداد بالوقوف لفترات طويلة والتعب، ويصبح الجلد ناعماً، لامعاً، حاراً، محمراً، مع فرط تعرُّق، وأحياناً تكون الوذمة إزرقاقية ويبقى الجلد بارداً.
الطور الثاني: وفيه تختفي الوذمة الالتهابية، ويتراجع الألم حتى يختفي كلياً بشكل كبير، كما يرقُّ الجلد ويبرد ويأخذ شكل تصلب جلدي، ويستمر فرط التعرق، وتبدأ القساوة المفصلية بالظهور. وهناك طور ثالث (قد لا يوجد)، ويتظاهر بشكل اضطرابات نمائية؛ مثل: انكماش الصفاق الأخمصي؛ مرض Ledderhose، أو انكماش الأوتار والمحافظ المفصلية (يصعب توضيحها في القدم)، وقد يظهر أحياناً ضمور في عضلات الربلة.
وحول تطور المرض وعواقبه وأشكاله يضيف استشاري جراحة العظام: قد يكون التطور بشكل عام ملائماً من الناحية السريرية، ويتم الشفاء في غضون 12 شهراً (الحدود القصوى 4-28 شهراً)؛ أي أن زمن تطور المرض يختلف بشكل كبير بين مريض وآخر، والعقابيل نادرة الحدوث، ومنها: بعض الألم عند التعب أو تبدلات الطقس.
أما أشكال المرض السريرية فهي كالتالي:
1- الأشكال فوق الحادة: بداية صاعقة، ألم مبرح مؤرق، مع حس حرق عميق وشديد، وذمة واضطرابات وعائية حركية شديدة، ارتفاع في درجة الحرارة عام، ولكنه لا يتجاوز عادة 38.5.
2- الأشكال المخادعة: شكل ألمي مع ترقُّق بدون وذمة (القدم المؤلمة ناقصة التكلس)، شكل وذمي مع ترقق بدون ألم (القدم المتوذمة ناقصة التكلس).
3- الأشكال الممتدة أو المتسعة: آلام حثلية تصيب بشكل متلاحق عدة مناطق مفصلية، مع وجود فترات زمنية مختلفة بين إصابة وأخرى، ولدى ظهور الإصابة الثانية تكون الأولى ما تزال في حال تطورية، كما تظهر الإصابات الثانوية بشكل عفوي بدون سبب واضح.
وعند الدراسة البيولوجية لا توجد تبدلات نوعية، وهنا يجب التمسك بالمفهوم الكلاسيكي القائل: إنه لا يجب أن ننتظر من أي فحص بيولوجي تأكيداً أو نفياً للتشخيص. وبالدراسة الشعاعية تظهر علامات المرض بعد أسبوعين على الأقل من ظهور العلامات السريرية، وأحياناً تظهر بعد بضعة أشهر، ويستمر المظهر الشعاعي إلى ترقق بسيط متجانس، كذلك ترقق فجوي عديد الأشكال، وهو الأكثر شيوعاً، وأحياناً يكون الترقق شديداً يؤدي إلى اختفاء كل الظلال الشعاعية، وهناك حالات نادرة لا تترافق بأي تبدل شعاعي، وتطرح إشكالات تشخيصية صعبة. كما تظهر الدراسة الشعاعية أن نقص التمعدن قد يظهر في المنطقة المصابة فقط، ولكنه غالباً ما يشمل مجمل القدم، وقد يمتد إلى أسفل الساق، وأحياناً تظهر الأشعة نقص تمعدن في مناطق مفصلية أخرى غير المصابة سريرياً في نفس الطرف أو الطرف المقابل دون أن يترافق ذلك بعلامات سريرية.
وهناك علامة شعاعية سلبية ومهمة جداً للتشخيص، وهي: سلامة الخطوط المفصلية وسلامة القشر العظمي؛ أي لا توجد انقراصات مفصلية ولا تخريب عظمي، وفي غالبية الحالات فإن تطور التبدلات الشعاعية يكون بطيئاً وطويلاً، ويبقى لفترة طويلة بعد الشفاء السريري، وغالباً ما يتراجع بشكل غير تام، حتى بعد مضي عدة سنوات. ويفيد التصوير الطبقي المحوري أكثر من الأشعة في تحديد سمات نقص التمعدن، في حين أن المرنان يظهر الإصابة بشكل مبكر. وتعتبر التفريسة الومضانية من الفحوص المهمة في تشخيص الألم الحثلي؛ لأنها تسمح باكتشافه مبكراً، ويعتبر هذا التصوير مهماً، ولكنه غير نوعي ومكلِّف، لذلك يتم اللجوء إليه في الحالات صعبة التشخيص والمعندة فقط.
وحول أفضل طرق علاج الألم الحثلي في القدم يقول د. سعادة: لا يوجد علاج نوعي، ولا توجد نتائج مرضية بشكل دائم لأي علاج. ويستهدف علاج الألم الحثلي السيطرة على الألم والوذمة والاضطرابات الوعائية الحركية، ويشمل العلاج الطبيعي، والعلاج بالحركة لمعاكسة الانكماشات المحتملة، وعلاجاً نفسياً داعماً؛ نظراً للأرضية الخاصة التي قد يظهر عليها المرض.
ويكون العلاج في الطور الأول والثاني بالراحة النسبية للمفصل المصاب، وإعطاء المسكنات المحيطية، مع مضادات التهاب اللاستيروئيدية أو دونها، ولا يفضل إعطاء الكورتيزون لدى غالبية المؤلفين.
وثمة علاجات أخرى، منها: إحصار العصب الودي باستعمال مادة Guanethidine، ولا يستعمل إلا في الحالات المعندة فقط.
وفي حال وجود أرضية عصبية خاصة يكون العلاج النفسي، ويفضل المهدئات الخفيفة، وخاصة في حالات القلق، ومضادات الاكتئاب الثلاثية، مع الاهتمام بالناحية النفسية والسلوكية للمريض.
أما العلاج الطبيعي والعلاج بالحركة فالهدف منه هو استعادة الحركة الطبيعية للمفصل المصاب، ويجب أن تطبق باكراً، ولكن بعد التراجع الجزئي للألم. والعلاج بالحركة يجب أن يكون فعَّالاً، حذراً، تدريجياً، متواصلاً من خلال (جلسات قصيرة متكررة)، وفي البداية لا يحقق نتائج إيجابية؛ لذا يجب الاستمرار فيه لفترة طويلة.
ومن طرق العلاج الجيدة أيضاً الحركة في الماء الحار، ويجب تطبيقها عندما تسمح الظروف المرضية، ويمنع التدليك أو التثبيت الجبسي للمفصل المصاب إلا في الحالات المفرطة الألم.
العلاجات الفيزيائية المولدة للحرارة ممنوعة، في البداية قد يفيد تناوب متكرر بين مغطس حار ومغطس بارد، وفي الطور الثالث للمرض يفيد التخضيب الموضعي بالكورتيزون للنقاط المؤلمة مع إعطاء المسكنات، وإجراء تحريك فاعل منفعل مع التدليك للمناطق المصابة بإشراف معالج فيزيائي.
|