كان الشيخ يوسف ياسين الذي كان يتولى منصب وكيل وزارة الداخلية السعودية في حياة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - يسرد ما جرى في رحلة من رحلات الملك عبدالعزيز من الرياض إلى مكة سرداً تلقائياً بعيداً عن التكلُّف والتصنع والمبالغات، لقد ترك نفسه على سجِّيتها في وصف وقائع تلك الرحلة التي قام بها الملك عبدالعزيز عام 1343هـ بواسطة الإبل حيث استغرقت خمسة وعشرين يوماً كاملةً، خاض فيها الملك ومن معه رمال الصحارى، وطووا أديم الفيافي والقفار، ما بين سيرٍ حثيثٍ ومبيتٍ ومقيل حتى وصلوا إلى البيت الحرام مبكرين مهللين.
لقد وقفت أمام جانبٍ من جوانب هذه الرحلة الملكية وقفة المتأمِّل المعجب، وشعرت من خلال هذه الوقفة بالغبطة والسعادة والأمل المشرق في بقاء كيان هذا الوطن العزيز صامداً قوياً - بإذن الله - أمام كلِّ المحاولات الظالمة، التي تستهدف تماسكه وتلاحمه، من أعداء وحسَّادٍ ومرجفين، وشعرت بعظم مسؤوليتنا جميعاً ولاة أمرٍ ورعية في استشعار عظمة هذا الكيان الموحَّد، واستصحاب عوامل وحدته وبنائه وقوته معنا - مهما كانت الصعوبات - وهي عوامل قائمة على شريعة الإسلام الخالدة، وعقيدته الصافية، وعدله الشامل، وسماحته، ورعايته لحقوق البشر، ورؤيته المتوسطة التي لا إفراط فيها ولا تفريط.
أي جانبٍ من جوانب هذه الرحلة الملكية استوقفني؟
سأترك مؤلف الكتاب الشيخ يوسف ياسين يجيب عن هذا السؤال: يقول: (للملك عبدالعزيز نظام في قطع المسافات الطويلة على ظهور الإبل، فهو لا يضيع الوقت عبثاً وإنما يستثمره خير استثمار، فالذين يكونون جنب السلطان ساعة المسير يختلفون من ساعةٍ لأخرى، فإذا كان (وقت قراءة القرآن).. أو (الحديث النبوي).. أو (شيء من التاريخ).. وجدت العلماء وطلاب العلم من حوله، فمثلاً ينادي السلطان عبدالعزيز من مرافقيه القاضي - ابن الشيخ - وهو الشيخ عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ - فيجيب ويدنو منه ويبدأ بتلاوة القرآن الكريم، فإذا وضح الفجر سكت القارئ، وخلا السلطان إلى نفسه يتلو حزباً فيه أدعية مأثورة، أكثرها من القرآن والأحاديث الصحيحة، أما إذا كان الوقت للقضايا السياسية فإنك تجد حوله أرباب الاختصاص يناقشهم ويستمع إليهم، وإذا كان الموضوع متعلقاً بالطريق ومساراته والمواقع التي يمر بها الرَّكب فإنك تجد حول السلطان خبراء الطريق من الأدلاء الذين يعرفون كل تلعة وشجرة ومنبسط في هذه الصحراء الواسعة.
ما رأيكم في هذا الجانب المضيء لرحلات (عبدالعزيز)؟
إنه الرجل العصاميُّ الذي عرف الطريق إلى المجد فسلكه في ثقةٍ وثبات، يا له من وقت موزَّع بين قراءة قرآن، وسماع حديث نبوي شريف، ورواية قصة تاريخية، وأدعية مأثورة ترتفع بها الأيدي إلى السماء، وأحاديث مهمة عن القضايا السياسية، وأحاديث أخرى عن المواقع والآثار، وما يتعلق بها من القصص والأخبار!
وهنالك جانب آخر يكتمل به هذا العقد أشار إليه مؤلف الكتاب بقوله: (وفي ظلمة الليل، وعندما يمل الركبان من طول المسير ينادي السلطان عبدالله العجيري، وهو راوية كبير يحفظ الروايات والقصص وأخبار الناس وسير العظماء والشعر العربي قديمه وحديثه، فإذا بدأ في روايته رأيته كالسيل المنحدر، يغرف من بحر، لا يتلعثم ولا يتلكأ، يصل القول بالقول، ويعز وكلَّ قولٍ إلى قائله، ثم تراه يشرِّق ويغرِّب، ويجوب حدائق الأدب العربي، بحيث لا يمل الساري ولا يسأم، ويتمنى أن يطول السُّرى).
إنها حياة عظماء الرِّجال الذين يبنون الأمجاد، تقوم على العقيدة السليمة، والفكر الصافي، والثقافة الجادة، والأدب الأصيل، والرؤية السياسية الواعية، ولا تجنح إلى اللهو والمجون، ولا تميل إلى الرَّخاوة وضعف الهمَّة.
بهذا الأسلوب بنى عبدالعزيز - رحمه الله - كيان هذا الوطن الغالي، وبهذا الأسلوب يستمر هذا الكيان، وتبقى مسيرته القوية شامخةً لا تبالي بما تلاقيه في الطريق من أعاصير العداوات والمؤامرات.
رحم الله الملك عبدالعزيز، ووفق خادم الحرمين وكل من يحمل المسؤولية معه في دفع مسيرة هذا الوطن على طريق شموخه الطويل.
إشارة
وبنى عبدالعزيز الصَّرْحَ فيها
شامخ الرأس قويَّ اللَّبناتْ |
|