* تُختتَم هذا المسَاء فَعالياتُ الملتقَى الثقافي الأَول الذي رعاه قبل ثلاثة أيام صديقُ المثقفين وعضدُهم الأول سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض. وسيكونُ مسكُ ختام هذا اللقاء حديثاً مُدَوِّياً لمعالي الصديق المبدع الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي، يُعلِّقُ فيه معاليه على مصْطَلح (تنمية الثقافة) من منظور معرفي وثقافي ووجْدَاني معاً، ويُنَتظر أن يكونَ لحديثِ معاليه أشجانٌ وردُودُ أفعالٍ نأملُ أن يكونَ حصادُها عوناً للثقافة والمثقفين في هذه البلاد!
* * *
* والحديثُ عن (تنمية الثقافة) يُوقظُ في نفسي ذكرى مقالٍ كَتبْتُهُ قبل نحو عقْدَيْن من الزمن، أنتقدُ فيه هذا المصْطَلحَ، وأجتْزئُ اليومَ بنُوداًً من تلك المداخلة مشاركةً في هذه الاحتفالية الرائعة للثقافة والمثقفين، فأقول:
* أولاً: يتواصَلُ الجدَلُ والجدَلُ المضَادُّ حول فكرة (التنمية الثقافية)، بين رَاغبٍ فيها ورَاغبٍ عنها. فهناكَ مَنْ يرى ملاءمةَ إخْضَاع قطَاع الثقافة؛ مدْخلاتٍ ومخرجاتٍ، لمعايير وآليات (التنمية الثقافية) عَبْر القنوات الرسمية للدولة؛ رغبةً في إكسابه انطلاقةً تُنَمِّيه وتُثْريه وسائلَ ومضموناً، وتَنْأَى به عن العشْوائيَّة أداَءً ومرْدُوداً. وهناكَ مَنْ يرى خلاف ذلك، بحجَّة أنَّ (البيروقراطية الرسمية) تُرْبكُ الحرَاكَ الثقافيَّ، وتُخْضِعُه لقوالبَ وضَوابطَ تختطفُ منه في المدى البعيد حريةَ المبَادرة، وتعدُّديةَ الإِثْراء، وموهبةَ الإبْداع!
* * *
* وتواصلاً مع هذا الجدل أقول: إنَّ هناك تنَاقُضاً مفصلياً يُوحي به مصطلح (التنمية الثقافية)، إذْ كيف ننْشُدُ تغييرَ حَالِ الثقافة بحالٍ آخر؛ بحثاً عن الأفضل, ثم نَسْعى إلى تحقيق ذلك عَبْر قوالبَ بيرُوقراطيةٍ وإجْرائيّة معيَّنة تسيِّرها (طقوس) البيروقراطية الرسمية وأدواتُها!
* * *
* ثانياً: إذا سَلمنا بدءاً بأن الثَّقافة تنشأُ في رَحم الحريّة وتَتغَذّى منها؛ لتنْتَهيَ بناتجٍ إبداعي ذي هُوية وسياقٍ معيَّن، فإنّه يُمْسي من الصعب القولُ بأنَّ هذه المبادرة يمكن أن تخضع لقالب (التقنين)، ممّا يُسَمِّيه البيروقراطيُّون (تخطيطاً)، ويُسمِّيه غيرُهم توْجيهاً يُشْبه القَيْدَ، أو قَيْداً يُشْبهُ التوجيه، وقد يُؤدِّي في السياقِ الأخير إلى تحْجيم الثَّقافة، إنْ لم نقل إطفَاء شعلة الإبداعِ فيها.
* * *
* ثالثاً: إنَّ التخطيطَ للثقافة، أو (التثقيفَ المخطّط)، وجْهَان لعُمْلتيْن مُتَّفقتيْنِ غايةً ومضموناً، بمعنَى إخضاع أدواتِ الثقافةِ ومضَامِينها ل(مسطرة التخطيط) الرسمي تقنيناً وإشرافاً وتوجيهاً، وإذا كان لا بدَّ ل(التخطيط) من دور يُعينُ في القطاع الثقافي، لأسباب تُمليها خُصُوصيّةٌ من نوع ما فيجب أن يلتزم هذا التخطيط ب(حدٍّ أدنى) من التدخل والتداخل في الحراك الثقافي، تَجنُّباً للإشكاليةِ التي ألمْحتُ إليها سَلَفاً، ورغبةً في منح الثقافة سقفاً معقولاً من حُريةِ التعبير؛ كي يكون أدَاؤُها مُواكِباً، إنْ لم يكنْ ردِيفاً، لحتْميّة الإبداع!
* * *
* رابعاً: هذا يَقودُ إلى قضية أخرى، وهي مسألة تعدُّد (مرجعية) الأداء الثقافي. وهنا ينقَسمُ الرأي بين فريقٍ يرجِّحُ فكرةَ تخصيص جهة تُعْنَى بمُدْخَلات ومُخرْجَات الثقافة، وفَريقٍ آخرَ يعارضُ ذلك بحجَّةِ أن هذا الإجْراءَ من شأنه أن (يُقَوْلبَ) النشاط الثقافي ويحدّدَ مسَارَهُ وإيقاعَهُ، ويُخْضِعَهُ لوصَايةٍ ومفاهيمَ وخياراتٍ (مُسْبقَة الصُّنع)، وهو أمرٌ يرَى هذا الفريقُ أنَّه يعطِّل الثَّقافَة، ويُصَادرُ منها مرونَة الحركة والإبداع!
* * *
* خامساً: أجدُ في نفسي ميْلاً صَوبَ الرأي القائل ب(إمكانية) توحيد الجهود الثقافية المبعثَرة تحت مظلة واحدة، ولْتَكُنْ هذه المظلةُ (مجلساً أعلى للثقافة)، يجْمَعُ في تشكيله بين (صَولجان) السُّلطة و(ثَراء) الاختصاص؛ ليُخرِجَ الثقافَة من حالة (العُقْم) الذي تعيشُهُ, وليكونَ لها أباً وراعياً ومرشداً ذا مفهوم عقلاني, وفؤادٍ مُتسَامحٍ, ورُؤيةٍ بَصِيرةٍ، وتكون مهمةُ هذا المجلس الإشرافَ عن بُعدٍ على الجهُودِ المتعلِّقةِ بالهمِّ الثقافي نثْراً وشعْراً وصَحافة وإذاعةً وتلِفَازاً ومسْرحاً وفنُوناً تشكيلية وشعبية ومواسم ثقافية.
* * *
* سادساً: غير أنَّني أتمنَّى، في الوقتِ ذاتهِ، ألاَّ يكونَ هذا المجلسُ (شُرطيَّ) مرُورٍ، لا يتَجَاوزُ دورُهُ إضاءةَ الإشَارات (الحمْراء) و(الخَضْراء) أمامَ (حركة العبُور) الثقافي، أو أن يَكُونَ حَكَماً مُتَزمِّتاً يُخضعُ الهمَّ الثقافيَّ لحُكْمٍ مسبق يستندُ إلى فرضية أنَّ كلَّ عملٍ ثقافيٍّ مشْكوكٌ فيه حتى يَثْبُتَ العكسُ، أو أن يكونَ (جلاَّداً) قاسياً لا يفرِّق بين الرَدْع والجزَاء، ولا بين الشفقة والثواب!
* * *
* سابعاً: أختم هذا الحديث بالتأكيد على ما يلي:
(أ): الحاجةُ لضخِّ الدماء الجديدة في شرايين الثقافة، وهذا أمرٌ تفرضُهُ ضرورةُ (التنمية الثقافية) بمفهومها (اللاَّبيروقراطي)، وتؤكِّده الحاجةُ الراهنةُ لاكتشَافِ المواهبِ الوَاعِدَةِ وتشْجيعها، بمنْحِهَا فرصَ التعبير، بدَلاً من أن تبْقى أوْعيةُ الثقافة ومخرجاتُها حكْراً على فئاتٍ أو أفرادٍ معْدُودين، فليس الإبداعُ وقْفاً على أحدٍ دون آخر, وليسَ للثقافة مُنْتَهًى يَصْهَرُ الإبداعَ ويَئِدُ المبدعين!
* * *
(ب): نحنُ في حَاجَة ملحَّة إلى المزيدِ من الاحتكَاكِ بثقَافَات العالم، حَسَنِها قبلَ رَدِيئِها؛ لنَأْخُذَ منها ما يحْسُنُ الأخذُ به، وننبذُ منها ما يجب نَبْذُهُ. أمَّا العزلةُ والاحْتِمَاءُ ورَاءَ المحَاذير وردْعُ الشُّبهات بالخوف أو التخويف فلن يَزيدَ ثقافتَنا إلاَّ قُصُوراً، ولن يَزِيدَنا نحن إلاَّ تَقْصِيراً في حقِّ أنفسنا، وحقِّ ثقَافتنا، وحقِّ بلادنا، وسَيُحِيلنُا إلى شَيءٍ من جَمَادِ الحسِّ والعَقْلِ والوجْدان!
|