معلوم لدى المثقفين عامة، والمتابعين منهم لحركة التفاعل الدولية خاصة، ما يتم على سطح الكرة الأرضية من تدويل لبعض البرامج والنماذج ذات الصبغة العالمية التي تستثمر تكنولوجيا الاتصال في سبيل ومن أجل خدمة الإنسانية قاطبة، وغالباً ما تتجاوز هذه التوجهات العلمية الأطر النظرية التقليدية التي طالما عششت في أركان الفصول وزوايا العقول على مستوى أكثرية دول العالم، وتحاول تعزيز أنماط من التعاون العابر للقارات في خدمة قضايا عالمية مشتركة، وتسعى إلى تأسيس نوع من الانسيابية في الاتصال والتواصل يخترق حواجز المكان في التعاون المعرفي على جميع المستويات وفي كل المنتديات والمجالات، حتى وصل الأمر إلى إيجاد قنوات للتواصل العلمي بين الطلاب على مقاعد الدراسة في القضايا العلمية المشتركة، مما يعزز قدرات أجيال المستقبل في مواجهة الأزمات ذات الطابع العالمي الشمولي.
والمتتبِّع لحركة التطور في مجال التعليم والتفاعل الحضاري، خاصة في عصر العولمة، يستطيع أن يسجل العديد من النماذج العالمية التي لاقت قبولاً من حكومات الدول، لا سيما الحريصة منها على بناء القواعد البشرية المؤهلة علمياً لخدمة مجتمعها ومستقبل وطنها. وحكومتنا -حفظها الله ورعاها- تتابع بدأب النماذج والبرامج العالمية وتدرس فوائدها ومدى ملاءمتها وجودتها وأثرها على سياق حركة النمو المنشود للوطن الغالي ولأهله وقاطنيه، وتقرر الانضمام أو عدمه في ضوء ما تسفر عنه نتائج الدراسات المتأنية من قِبَل اللجان المتخصصة.
ومن البرامج العالمية التي انضمت إليها المملكة العربية السعودية ممثلة بوزارة التربية والتعليم العام قبل الماضي برنامج جلوب البيئي.
ومن أحداث الأسبوع الماضي في منطقة حائل التعليمية زيارة فريق هذا البرنامج العالمي المنطقة.. لقد التقى الفريق بصاحب السمو أمير المنطقة، كما ألقى رئيس الفريق محاضرة تعريفية عن البرنامج، كان من ضمن التعريف الإشارة إلى أنه أمريكي الميلاد والنشأة، وأن المملكة العربية السعودية انضمت إليه مؤخراً، واستطاعت أن تحظى بالحصول على الوسام ودخول لوحة الشرف العام الماضي، وللبرنامج - كما جاء على لسان المحاضر - أهداف كثيرة، أهمها على الإطلاق تخريج وتدريب علماء المستقبل في علم البيئة. أعقب المحاضرة عدد من الأسئلة والتعقيبات التي تكشف عن آلية التفكير عند البعض منا.. لقد كنتُ حاضراً اللقاء والمداخلات، وتوقفتُ عند عدد من الأسئلة التي طُرحت حول برنامج جلوب البيئي، وربما أُعيدتْ بصيغ مختلفة من قِبَل الإخوة الحضور. فَحْوَى هذه الأسئلة - حسب اعتقادي - يدل دلالة نسبية على منهجية تفكير العقل السعودي في نظرته للأشياء الوافدة على وجه الخصوص.. أول هذه الأسئلة كان يتمحور حول الضمان الوظيفي والمردود المالي لهؤلاء الطلاب الذين سيقضون الساعات الطوال في البحث والدراسة والتفكير، وسيؤهلهم البرنامج ليكونوا -بمشيئة الله- علماء البيئة في المستقبل. والسائل هنا ينظر للأمور بنظرة مادية قريبة بسيطة، يقيس مقدار الفائدة بمبلغ من المال يناله من يُعَدُّ ليكون عالماً في المستقبل، لا يهمه ما سوف يتفتق في ذهنه من رؤى، وما سيتحقق له من اتساع أفق ودراية ودربة في مناهج البحث والتفكير، كما أنه لا يكترث بالمردود الإيجابي على المجتمع من جرَّاء تحقق النفع العام على يد هذا الذي يعدُّ ليكون متخصصاً في فن من فنون العلم ذات المساس المباشر بحياة الناس.
أما الثاني فقد تمحورت تساؤلاته حول معلومة واحدة توقَّف عندها تفكيره، وبها نسف التفكير الإيجابي في هذا البرنامج منذ البداية. إنها معلومة دولة المنشأ وما يُثيره ذلك من شكوك لديه وأغراض مشبوهة حسب ظنِّه، من بينها توظيف الأفكار والإبداعات التي تتحقق على أيدي أبنائنا وفي مدارسنا لمصلحة الآخر. إنه يبني رؤيته الذاتية الخاصة على نظرية المؤامرة وإن كان لا يعلم، ويعتقد أننا نملك من زخم الإبداعات الذهنية ما يجعل الغرب واقفاً ينتظر الوافد من بلاد العالم الثالث!! ولماذا لا تكون أنت مَن يأخذ من الآخر ما لديه من أفكار من خلال انضمامك لمثل هذه البرامج العالمية؟!
أما الثالث فمن الواضح أنه ينطلق من نظرته للبرنامج وما ماثله من منطلق شمولي، ويقرأه بمنهج نقدي وواقعي، فهو وإن بارك حصول طلابنا على الوسام ودخول لوحة الشرف إلا أنه يعتقد أن هذا الأمر لا يعكس الحقيقة التي نعيشها صباح مساء؛ إذ نحن نلمس في حياتنا صوراً من الفساد البيئي يجب أن تتكاتف الجهود لعلاجه، كما أن أبناءنا في المدارس يعتبرون أمر البيئة شأناً ثانوياً ليسوا شركاء في سلامته، فمناهجنا لا تنمِّي عندهم الوعي البيئي منذ الصغر!!ورابع هذه العقول صاحب الرؤية الاستشرافية المستقبلية الذي يعتقد أن هذا الهدف المبتغى بوجوب وجود أقسام متخصصة في البيئة ومتميزة في الأداء الأكاديمي في جامعاتنا السعودية؛ حتى يتسنَّى لهذا الطالب الذي انتظم في برنامج جلوب حين كان في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أن يواصل مساره البحثي الإبداعي، وإلا سينهي همه البحثي وجهده التخصصي في يوم من الأيام. وهذه إشكالية عامة نواجهها في مسارنا التنموي الشامل، إنها صفة العمل المرحلي الذي قد يتوقف في أي لحظة من الزمن.
هذه الأطياف الأربع هي في نظري الغالبة على مسارات التفكير لدينا، وهي اليوم في مشرحة المثقفين السعوديين ومعروضة عليهم في اجتماعهم التاريخي الأول في الرياض، فماذا عساهم يقولون عن مساربنا الفكرية وأنساقنا الذاتية وهمومنا الثقافية؟!
|