أكتب هذه السطور في صباح يوم الجمعة التاسع من شعبان، الثالث والعشرين من سبتمبر، مع إطلالة مناسبة اليوم الوطني لبلادنا - حفظها الله من كل مكروه - وشريط من أحداث الماضي يمرُّ أمامي ليتصل بالحاضر المعاش. انظر إلى ما حدث عام 1351هـ - 1932م من إعلان توحيد الوطن باسم المملكة العربية السعودية فأكاد أركن إلى القول بأنه كان تثبيتا رسميا لواقع عملي. كانت بداية مسيرة ذلك التوحيد الذي أصبح على ما هو عليه الآن بفضل الله، قد تمت سنة 1319هـ - 1902م. على انها - في حقيقة الأمر - كانت بداية مسيرة لإعادة توحيد ممتد الجذور شمل أجزاء الوطن كلها - بل تجاوزها إلى بقاع أخرى من الجزيرة العربية - حينا واقتصر على أجزاء منه حينا آخر.
لقد وضعت البذرة الأولى لتوحيد البلاد سياسيا في تربة طيبة متمثلة في تلك المبايعة المباركة التي تمت في الدرعية بين الشيخ المصلح محمد بن عبدالوهاب والأمير الحاذق محمد بن سعود عام 1157هـ - 1744م. وجوهر تلك المبايعة القيام بنشر عقيدة التوحيد الخالص في ربوع البلاد خالية من البدع والخرافات. وهكذا رأى المتبايعان تلازم الدين والسياسة. وكان ذلك الشيخ الجليل يدرك بوعيه لدروس التاريخ أن أي دعوة إصلاحية لا بد لنجاحها من ساعد يذود عنها وينصرها. وكان ذلك الأمير المحنك يدرك بفكره الثاقب أن الوقوف مع ما رآه حقاً، ذوداً ومناصرة، فيه ما فيه من مكاسب دينية ودنيوية، وما زاده قول الشيخ له: (هذه كلمة التوحيد، التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد) .. إلا اطمئنانا لما أدركه من وجود تلك المكاسب.. وهكذا بدأت مسيرة التوحيد منذ تلك المبايعة المباركة.
وما كانت رياح مسيرة التوحيد دائما رخاء، لكن ربانية سفنها كانت ثقتهم بالله ثم بأنفسهم ومناصريهم من القوة بمكان، وكانت مهارتهم في تقليب الامور من وجوهها المختلفة من الدقة بدرجة جيدة، كانت منطقة نجد، المركز والمنطلق لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، منطقة مفككة سياسيا، إذ مضت عليها قرون متوالية لم تذق فيها طعم الوحدة، التي يكون من ثمارها اليانعة، عادة، تحقق الأمن، وبالتالي الإفادة من الإمكانات الاقتصادية إلى أقصى حدودها المتاحة. وكان تجذُّر الشعور بالنزعة الاستقلالية لدى أمراء الحاضرة وزعماء البادية على حد سواء من أكبر العوامل التي حالت دون تمكُّن قادة الدولة السعودية الأولى من إكمال توحيد منطقة نجد وحدها قبل أربعين سنة من الكفاح المرير، وما ان تمكنوا من ذلك حتى أصبحت الطريق ممهدة نسبيا أمامهم لتوحيد المناطق الأخرى، التي كان زعماء أغلبها قد حاربوا دولتهم بمختلف الوسائل، فوحَّدوها في مدة قصيرة مقارنة بالمدة التي استغرقت توحيد منطقة نجد.
وكان تذوُّق النجديين ثمار الوحدة في عهد الدولة السعودية الأولى عاملا مهما جدا في وقوفهم مع الإمام تركي بن عبدالله، الذي كان يتحلى بصفات قيادية عظيمة، وذلك عندما رفع لواء اعادة توحيد البلاد. ولم يمرّ عامان على اخراجه بقية حاميات محمد علي باشا الذي قضى ابنه إبراهيم على الدولة السعودية الأولى سنة 1233هـ - 1818م، حتى بايعه النجديون طواعية إلا من ندر منهم. والمتأمل في التاريخ يرى أنه لا شيء أضرَّ على الدول من تنازع قادتها على الحكم، وهذا ما حدث بالنسبة للدولة السعودية الثانية، التي انتهت لأسباب في طليعتها التنازع بين أفراد الأسرة الحاكمة فيها.
وما كانت مسيرة التوحيد أو إعادة التوحيد، التي قادها الملك عبدالعزيز ابتداء بنجد، قاعدة انطلاق التوحيد في أدوار الحكم السعودي الثلاثة، بمثل مشقة مسيرة أسلافه من قادة الدولة السعودية الأولى، ولا بمثل يسر مسيرة أبي جدة تركي بن عبدالله مؤسس الدولة السعودية الثانية عند انطلاقته كانت الأمور بين بين. كانت صفاته القيادية محلّ اعجاب الكثيرين. ومتى حلَّ الإعجاب بالشخصية لدى الناس كسب وقوفهم معهم. وكان سكان الرياض يتطلعون إلى استعادة مدينتهم مكانتها عاصمة لدولة، لا تابعة لقيادة في مكان آخر. ولهذا ضمن وقوفهم معه. وكان عدد من أمراء بلدان نجدية لها ثقلها، سكانياً واقتصادياً، قد فقدوا إماراتهم عند نهاية الدولة السعودية الثانية، وأصبحوا مع أتباعهم في تلك البلدان مستعدين للتعاون معه، أملاً في استعادتهم ما فقدوه، وما كان حكم الأمير عبدالعزيز بن رشيد بالحكم الذي أرضى أكثرية النجديين مما زاد من إمكانية وقوفهم، أيضاً، مع الملك عبدالعزيز. على أن مجرد وجود حكم آل رشيد الشامل لنجد حينذاك كان عقبة في وجهه، ولم يوجد مثلها عقبة في وجه الإمام تركي بن عبدالله.
وهكذا انضوى تحت راية الملك عبدالعزيز أكثر النجديين لأسباب مختلفة، ومضت مسيرة التوحيد، تضحية من أولئك القوم بأنفسهم وأموالهم، حتى وصلت إلى غاياتها المنشودة، لا في نجد وحدها، بل في كل المناطق التي أصبحت تتكون منها المملكة الآن. وتحقق في ظل ذلك القائد المؤسس ما تحقق من بدايات إصلاحية حضارية أصبحت قواعد ثابتة للنهضة المباركة التي يشاهدها الجميع بعد نصف قرن من انتقاله إلى الدار الباقية.
ما تحقق من توحيد للوطن نعمة كبرى يجب شكر الله على توفيقه لتحقيقها. وما تحقق من نهضة حضارية مادية المعالم أمر إيجابي يفتخر به ويشكر المولى - سبحانه - على أن وفق الجميع، قيادة وشعباً، على القيام به. على أن من أدلة الشكر على ذلك التوفيق أن يشعر كل فرد بالمسؤولية الملقاة على عاتقه مهما كان موقعه الإداري والاجتماعي، وذلك ليبرهن على أن بناء تلك الحضارة المادية المعالم المهمة قد زامنه بناء المواطن المتحلي بالصفات التي لا توجد مواطنة حقيقية بدون التحلي بها. فهل يوجد ما يدل على النجاح في ايجاد المواطن المدرك لمسؤولياته القائم بأدائها الأداء المبرئ لذمته أمام الله وأمام التاريخ؟
توجد أنظمة لا بأس بها توضح وجوه نشاط الدولة والمجتمع، وما ليس موجوداً مما هو مأمول الوجود في طريقه إلى التدوين. لكن الاهم هو مدى النجاح في مراعاة تلك الأنظمة وتطبيقها على الجميع. معرفة النجاح من عدمه في إيجاد المواطن العارف بحقوقه وواجباته القائم بمسؤولياته حق القيام تدرك بمدى التطبيق في ذلك. القدوة من أهم أسباب التأثير. عندما يُرى مسؤول كبير لا يراعى الأنظمة في تعامله فهل يؤمل ان يكون من هو تحت إدارته مراعيا لها؟ وعندما يُرى أستاذ جامعي - مثلاً - وقد ترك سائق سيارته يغسل كل يوم سيارته من الماء المحلَّى، بل وربما غسل موقف السيارة من هذا الماء - والماء عملة نادرة في وطن مثل هذا الوطن - هل يمكن أن يقال إن هناك نجاحاً في خلق مواطنة في بلادنا؟ وهلم جرا.
وفق الله الجميع للرشاد والسداد، وحمى الوطن وأهله من كل مكروه.
|