يحب الناس الأرياف ويتذكرون حياتهم فيها بشيء من العاطفة الممزوجة بالخيال والذكريات الجميلة، فالريف لفظة مرادفة للطبيعة ولنقاء الاجواء ولصفاء البيئة، مرادفة للعلاقات الأسرية القوية، ولقوة الروابط الاجتماعية، والذين عاشوا في الأرياف يدركون ما أقول حق الإدراك، فالسماء صافية تتلألأ فيها النجوم، وأحياناً تملؤها السحب، وأحياناً ترى النجوم من خلال غلالات من السحب، وكأنهن عذارى قد وضعن على وجوههن غطاء رقيقا أبيض. في الريف تجد العلاقة الوثيقة بين الإنسان ومخلوقات الله الأخرى، فالصداقات يعقدها الإنسان بكثرة مع العصافير، ومع الجمال ومع الإغنام والأبقار والقطط والكلاب والدجاج وغيرها من مخلوقات الله.. حتى النباتات والمكان يعقد الإنسان معها علاقات ود ومحبة. فكم أظلته تلك الشجرة، وكم أطعمته من ثمارها، وكم شهدت من لقاءات ودية مع الأهل والأقرباء والأصدقاء والأصحاب. وكأن تلك الشجرة مثل أم غذت طفلها وحضنته ورعته. فهو يدين لها بكل ما قدمته له من معروف وعطف وحنان. وعلاقة الإنسان بالمكان في الريف قوية، فالمزرعة قطعة من الأرض لكنها عند صاحبها وعند من نشأ وهو يتغذى من ثمارها ويسرح ويروح عندها شيء آخر. إنها رمز لكثير من العلاقات والذكريات، رمز للأب وللأم وللأجداد الذين عاشوا معتمدين عليها، حيث حافظت على أرواحهم وربما أنقذتهم من الموت والهلاك في الزمن الغابر عندما كانت الحياة شحيحة، وكان الفقر يغرس مخالبه في كل مكان. لقد حافظ الأجداد على تلك الأرض وصانوها وربما قاتلوا في سبيلها. ولهذا نجد صعوبة في إقناع بعض الناس بالتنازل عن قطعة من أرضه مقابل قطعة أخرى أكبر منها مساحة، وأفضل موقعاً، وأكثر خصوبة، إنه يرفض لأن هناك علاقة روحية نشأت بينه وبين المكان مع مرور الأيام، فهو إن تنازل يتنازل عن قطعة من ماضيه، عن قطعة من ذكرياته، وعن قطعة من نفسه. إننا نحِنُّ إلى المنازل التي قضينا فيها مرحلة الطفولة والشباب، ونتمنى أن تحين الفرصة للعيش فيها مرة أخرى ولو لفترة قصيرة من الزمن، لنعود إلى الماضي، إلى براءة الطفولة، وإلى حيوية الشباب، إلى الذكريات مع الوالدين والإخوة والأخوات والأقران. وربما كان ذلك هو السبب وراء ما قاله الشاعر:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل |
فالمنزل الأول هو منزل الطفولة، المنزل الذي كتب الحروف الأولى في حياة الإنسان، المنزل الذي نتذكر الماضي القابع هنا وهناك في كل شبر وفي كل زاوية وفي كل موقع فيه. نتمنى أن نعود إلى البيوت القديمة رغم أنها لم تكن فخمة، وكان ينقصها الكثير مما تزخر به البيوت التي نعيش فيها الآن. ومن أجل هذا كثر التغني بالأماكن، وبالأوطان في الشعر العربي، ولو ذهبنا نستقرئ تلك الأشعار لطال بنا الحديث ولخرجنا بديوان من الشعر. إن الإنسان كلما أمضى وقتاً اطول في المكان كانت علاقته به أقوى، وكلما كثرت زياراته له بعد الانتقال منه قويت علاقاته به. وهذا يتأتّى للحياة في الأرياف أكثر من حياة المدن حيث يكثر التنقل والارتحال، ويكثر التغيّر والتجديد.
* عضو هيئة تدريس
|