أحداث الساعة تأبين للنظام العربي، وإعلان لخاتمة حزينة لهذه المرحلة بكل تطلعاتها وإخفاقاتها وممانعاتها.
والنظام الأمني يتهتك في ظل حضور إسرائيلي مدروس في المنطقة، وتأثير مباشر على مجريات القرار في الولايات المتحدة، وما خبر اكتشاف الجاسوس الإسرائيلي على أعلى المستويات في البنتاجون إلا نموذج لهذا التأثير.
وقد كان لهذه الجاسوسية تأثير حقيقي على قرار حرب العراق وما تلاه, وعلى مجمل السياسات الأمريكية في قضايا الشرق الأوسط، مما يؤكد أن حفظ أمن إسرائيل هو أبرز أهداف تلك الحملة، بيد أن الإدارة الأمريكية بجملتها خاضعة للنفوذ اليهودي، ومرشحو الرئاسة يختلفون في أشياء عديدة, ولكنهم يتفقون على دعم إسرائيل وحمايتها, ويتنافسون في تقديم المزيد للمواطن الإسرائيلي، ويأبى الإعلام أن يكشف للشعب الأمريكي حقيقة الأمر, فالإعلام خاضع هو الآخر للنفوذ اليهودي، كشركة تايم وارنر التي تملك عدداً من شبكات التلفزيون بينها CNN والمئات من شبكات الإعلان والفرق الرياضية وشبكات للإنترنت واستوديوهات ومؤسسات للإنتاج السينمائي ودور نشر للكتب، كما يسيطر اليهود على غيرها من محطات التلفزة ك Fox TV و Cbs tv وABC وNBC ومجموعة من الصحف اليومية واسعة الانتشار، ولليهود نفوذ كبير في هليود وصناعة السينما العالمية.
ولذلك تم التستر على فضيحة الجاسوس في وزارة الدفاع, ولنا أن نتصور لو أن هذا الجاسوس كان عربياً! لقد دارت التهم حول موظف عادي في سجن غوانتانامو وتم تصعيد الخبر إعلامياً، وتكشفت النتائج عن وهم كاذب أو خداع مدروس.
وهذا يشكل التحدي الخارجي الهائل لما كان يسمى بالنظام العربي, فالإرادة - بتقديم الراء- الأمريكية ماضية على كسر أي امتناع عربي أو إسلامي يعكر على الوجود اليهودي، ويحول دون إتمام صفقة سلام ذليل يفتح لإسرائيل الحدود العربية، ويقيم سفاراتها في العواصم الكبرى, ويقضي على كل وجود عسكري أو أمني يهددها في الحاضر أو المستقبل. وفي الوقت الذي لا زالت خطة أمريكا في العراق تعاني من الإخفاق, فإن صقور الإدارة يتحرشون بقوةٍ بسوريا وإيران والسودان, ويضغطون على مصر والسعودية ولبنان.
ووضع كهذا يتزامن مع مساندة إعلامية وأمنية للقوى الداخلية المنسجمة مع السياسة الأمريكية, فهناك بند خاص لدعم (المثقفين) المتحالفين مع أمريكا, ويخطئ من يظن أن هذه الأساليب كانت حكراً على نظام البعث في العراق، فقد ذكرت فرانسيس ستوندر في كتاب الحرب الباردة الثقافية أن المخابرات الأمريكية قامت عام 1950م بتأسيس منظمة ثقافية باسم (منظمة الحرية الثقافية) تحولت في عام 1976م إلى الاتحاد الدولي للحرية الثقافية، وقد قامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية، وقد أصدرت هذه المنظمة أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية، لكي يتواصل الجميع مع الأسلوب الأمريكي في الحياة، ولخدمة المصالح الأمريكية، وكانت هذه المنظمة التابعة ل CIA تدعم من تسميهم بأصدقاء الحرية بمبالغ طائلة تتجاوز خمسة ملايين فرنك سويسري شهرياً.
والقنوات الحرة تمارس تبشيراً مكشوفاً بالقيم الأمريكية, أو باللاقيم على الحقيقة, وقد يصل بها الحماس إلى أنها لا تستطيع أن تداري انحيازها السافر لكل ما هو ضد العروبة والإسلام! ولقد أصبح العديد من كتاب الأعمدة يشمتون بالمقاومة الوطنية الصادقة حيث كانت، ويعدونها عبثاً وهدراً، في الوقت الذي يشيدون به بعملاء الغرب الذين يمنحونهم صفات العقلانية والتطوير والإنجاز وإعادة الإعمار! وضمن هذه الحلقة تتحرك جهود مكافحة الإرهاب لتشويه صورة المقاومة المشروعة، وقطع المساعدات المادية، أو المؤازرة السياسية وعزلها عن ارتباطها التاريخي بالشعوب الإسلامية.
وأمريكا التي تمسك بمعظم خيوط اللعبة توظف المنظمات الدولية لمصالحها الخاصة وتستصدر القرارات التي تشاء, وتغلق أبواب نادي العولمة الاقتصادية في وجه الدول التي تظهر شيئاً من استقلال الإرادة السياسية.
لسنا نستغرب أن يحدث هذا, فالذي لا يساعد نفسه لن يساعده الآخرون, والضعيف يظل عرضة للابتزاز ويغري الآخرين بهذا، لكن الغرابة في المسارعة العربية في هؤلاء القوم, حيث ترتفع نبرة الحديث عن علاقات طبيعية مع إسرائيل, ويبادر بعض القوم إلى زيارتها, ويسارع آخرون لتعويض اليهود المهاجرين - كحالة ليبيا المنكوبة - ويتوارى آخرون خجلاً من الحديث عن العدو الصهيوني الذي أصبح كياناً ثم دولة, وقد يأتي اليوم الذي تصفه بعض قنوات الإعلام السياسي بالصديق, وإذا لم تُفعل مداراة للشعور الشعبي فإنها تكون قطعت قبل ذلك شوطاً بعيداً في تبادل الخبرات الأمنية والتعاون الاقتصادي والتطبيع السياسي الهادئ.
وقد يأتي اليوم الذي تتحدث فيه تلك الأقنية عن زيارات متكررة إلى (القدس) تحت سمع الكاميرات وبصرها.. ولِمَ لا؟ فنحن في عصر التحولات والمفاجآت, وإذا لم يحدث هذا اعتباراً بما جرى في مصر فلتكن اللقاءات المكوكية المتخصصة هي البديل الأجدى لاندماج (إسرائيل) في الشرق الأوسط الكبير! في النهاية لست متشائماً، لأنني أعرف أن الطب نجح في زراعة الكبد والكلية و... و... ولكنني لا أعرف حتى الآن أن الطب نجح في زراعة (رأس).
إن أقسى هزيمة تحيق بنا أن نصل إلى شفير اليأس، فليكن لنا معتصم بإيماننا بالله ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على الظالمين المعتدين ولو فسح لهم في الوقت, والله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. (هود:102)
|