اختفت الغنمة منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة، انتهى أمرها وخرجت من كل ذاكرة سكنتها. صاحبها وهو والد صاحبي أصيب في أواخر عمره بمرض الزهايمر. على أثره فقد كل اتصال له بالعالم. من باب المحبة والوفاء أقوم بزيارته. لا يتذكرني ولا يتذكر حتى أبناءه ولكن الشيء الغريب انه كلما شاهدني أنا أو أي واحد من الأصدقاء الأربعة المقربين جداً من ابنه يحرك يده ثم يلتف ببطء إلى الوراء كأنما يلتفت على الماضي وقبل أن يتم رأسه نصف دورته يسأل: وش ظنك صار للغنمة؟ لا يبدو أن السؤال موجهاً لأحد ومن الواضح انه لا ينتظر أي إجابة. المؤكد أن وجوهنا الأربعة تحرض ذاكرته المحطمة على تذكر الغنمة. لم تتميز غنمته بأي ميزة بل بالعكس أمضت في قوعهم أكثر من سنة ونصف لم تحبل رغم أنها عاشرت نصف تيوس الرياض. كل يوم لها حفلة صاخبة مع تيس جديد دون فائدة. سألت صديقي لماذا لم تخبر والدك بالحقيقة تريحه وتريحنا. فقال: المشكلة أنه نسيها منذ سنوات بعيدة. لم تشكل قضية بالنسبة له إلا في السنتين التاليتين لاختفائها ثم نسيها بعد ذلك. لم تعد ذكراها إلى بقايا وعيه إلا بعد أن بدأ مرض فقدان الذاكرة يحطم شخصيته. ولا يتذكرها إلا بحضوركم الأربعة. صارت الآن الرابط الوحيد له مع هذا العالم. أكثر من ثمانين سنة من الحياة والتجارب مسحت من ذاكرته لم يبق فيها سوى تلك الغنمة.
أشعر بالانزعاج وبعقدة الذنب كلما زرته. عندي إحساس أنه كان يخفي في داخله شكوكاً بأننا كنا مشتركين في مؤامرة اختفائها. رغم أنني وبقية الشلة غير مسؤولين مسؤولية مباشرة عما جرى لغنمته. لأن كل منا تصرف حسب ما تمليه ظروف تلك الأيام. لا أنكر مدى تعلقه بها. من حرصه عليها أتذكر انه أوصى على شمالتها من عند أم حسن المتخصصة في صناعة البيز والشمالات والطواقي ودخل معها في مفاوضات مضنية لتحديد نوع القماش الذي يجب أن تصنع منه الشمالة. رفض رفضاً قاطعاً أن تصنع من القماش المعروف بالأمريكاني. رفض على أم حسن أن تشتري لها قطعة قماش مما كان يعرف في ذلك الزمان بأبو غزالين. قماش ناعم أقرب إلى الحرير. ثم تدخل في أدق التفاصيل، من حيث الخياطة والحبكة والغرز وعدد القطع التي تتكون منها تلك الشمالة ثم ترك مسألة تجميعها إلى أن يتحدد حجم الديد لحظة الولادة. لم يترك أمر شمالتها لعبث الهواة. المهم أنه بدأ الإعداد لولدتها منذ أول ساعة دخلت منزله.
لا أجد المبرر الكافي للزج بنا في قضية غنمته. من حقه أن يربط بيننا وبين غنمته من خلال حادثة واحدة حدثت في ذلك الفجر الربيعي عندما طلب منا أن ننتظر لنفتح باب القوع لسعود الشاوي وذهب هو لإحضار العلف لضيافة التيس الذي سيحضره الشاوي معه. كنا في رمضان. وقد اعتدنا أن نلعب كورة في الساعة أو الساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة. فتحنا باب القوع وردمناه بحصاة على أساس أن سعود الشاوي يعرف طريقه. وبعد أن رجعنا وجدنا أن الحارة منقلبة رأساً على عقب. حشد من البشر يتجمع على باب القوع يقف وسطهم سعود الشاوي ملقياً بقبضته على رقبة تيس ضخم ووالد صديقي في حالة من غضب عظيم.
عرفنا من تجميع فسيفساء الشتائم التي يطلقها أن الغنمة خرجت من الحوش وضاعت. لم تكن المشكلة بذلك الحجم الذي ظهر عليه والد صديقي ولكنه مع الأسف كان قد فقد القدرة على التصرف السليم. فبعد دقائق من البحث المتأني اكتشفنا أن الغنمة دفت الحصاة وخرجت من البيت ثم طلعت من السكة لتعبر الشارع وتنزل أخيراً في عب شارع الشميسي الجديد. يمكن أن أقول إن هذه الحادثة روعته ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعلها تنفرد بذاكرته بعد كل هذه السنين. لكن ما هي علاقة تلك الغنمة بالسياحة الداخلية؟ هذا ما سيتضح يوم الاثنين القادم.
فاكس 4702164
|