Saturday 25th September,200411685العددالسبت 11 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

المنشود المنشود
أُمِّيَّةُ الانتماء
رقية الهويريني

تجلس (أم محمد) المستخدمة في المدرسة بجانب طاولة مكتب المرشدة تحتسي فنجاناً من القهوة السمراء بهدوء.. وكلما همت بوضع الفنجان على طرف الطاولة تكفُّ خوفاً من اتساخها، وقد جُبِلَت هذه النفوس على الحياء!
جبين (أم محمد) يحكي قصة الزمن! فبتعرجاته سِفْرٌ حافل من العطاء والشقاء. عاصرت (أم محمد) أيام بناء الوطن حين كان صحراء قاحلة، وثمة شجيرات تسقى من العرق حين يشح الماء.. أيام كان كل فرد يساهم في البحث عن لقمة العيش المغموسة بالشظف..
ولما مدت (أم محمد) يدها تُسلِّمُ الفنجان فارغاً كانت يدها كقطعة من ورق الصنفرة.. عندها أدركتُ الفارقَ الحضاري بين يد تعاملت مع المنجل ويد تداعب أزرار الكمبيوتر بكل خفة!! وحين أحكمت (أم محمد) غطاء رأسها الملتف على كتفيها وقامت لتضع الفنجان وتقولَ بلهجة نجدية: (عساهن ما يهجرن!!) أيقنت أن الحضارة أبدلت بعض المفاهيم!
يا أم محمد: القهوة - أصبحت - لا ترمز إلى الكرم (فالدلة) لدى كثير من الأسر تعاني من الهجر الاختياري، واستبدلت بالعصائر المحفوظة والمشروبات الغازية!
إن حضور (أم محمد) ليس مستغرباً ودخولها المكتب أمر طبيعي، إلا أن زيارتها في هذا اليوم ذات مغزى، فقد حضرت تشتكي من عدم احترام التلميذات لها في المدرسة، ومشاكستهن لها برمي الأوراق والمخلفات على الأرض، كما أن هدر الماء وترك الصنابير مفتوحة أصبح ديدن هؤلاء التلميذات، وكذلك دورات المياه تفتقر إلى النظافة وتتعرض محتوياتها للعبث.. والكتابة على الجدران أضحى سمة هذه المدرسة، إضافة إلى عدم إطفاء الأنوار بعد انتهاء اليوم الدراسي!! إنهنَّ لا يقدرْن النعمة! هكذا قالت أم محمد. وأضافت: لو تعلم هؤلاء التلميذات كيف هي معاناتنا - سابقاً - من جلب الماء من الآبار، لقد عايشتُ تلك الأيام وما صاحبها من عناء ومشقة.. أين دورك أيتها المرشدة في هذه المدرسة؟! قولي لهن كيف كنا وما نحن فيه الآن من رغد العيش، نبهي تلميذاتك أن الله الذي سخر لنا هذه النعمة لقادر على ذهابها علميهن احترام الكبير والرأفة به. وطفرت عيناها الصغيرتان بالدموع، وطفقت تجر طرفاً من غطاء رأسها لتضعه على وجهها وهي تغمغم وتتساءل: هل هذه هي الحضارة التي ما فتئت تمجدينها؟! هذه الفوضى والله بعينها!! خرجت (أم محمد) على وعد من المرشدة بتبصير التلميذات بضرورة الاهتمام والمحافظة على الممتلكات العامة. طلبت المرشدة الدخول على التلميذات في حصص الفراغ حين غياب إحدى المعلمات - وكثيراً ما يحدث!! - ورأت أن التلميذات يفتقدن الإحساس بالمواطنة والانتماء لهذا الوطن الجميل بصحرائه، ومناخه، وجباله، ووهاده!! لا تعرف هؤلاء التلميذات ماذا يعني الوطن غير أنه أنشودة تتردد في كتاب الأناشيد أو في مناسبة عامة!!
لا تعي هؤلاء الصغيرات ماذا يعني أن يكون لك مكان يشعر كلُّ فرد أنه يملك جزءاً منه إن لم يكن يملكه كله.. إن لدينا - هنا - أمية في الانتماء لوطننا، فليس شرطاً أن يكون لدينا أودية وسهول خضراء لنحب وطننا ونحافظ على ممتلكاته.. لا تدرك هؤلاء التلميذات أن المذاكرة الجادة والمحافظة على الوقت هي المواطنة بعينها. كما أنهن لا يستوعبن أن التقيد بالقيم والمبادئ السامية ضرب من المواطنة، ولا يخطر ببالهن أن الغيرة على الوطن تكمن في اتباع الأنظمة وعدم خرق القوانين بمساعدة المخربين من خارج الوطن أو من داخل نطاقه، على تدمير أخلاقيات المواطنين سواء بالأفكار التخريبية أو بدخول الممنوعات والترويج لها بهدف مادي بحت، أو لأغراض شخصية صرفة.
قد لا يخفى على مواطنينا - صغار وكبار - أن كل ما حذرت منه الشريعة الإسلامية ابتداء من المحافظة على أرواح الناس ومروراً بالتعاون بين أفراد المجتمع وانتهاء بإزالة الأذى عن الطريق، كل ذلك يعني المواطنة الحقة. ومن يرى مدارس البنات وربما مدارس البنين يرى العجب! فالأوراق متناثرة والمياه مسكوبة في الممرات والمداخل والأنوار مضاءة في عز ظهيرة بلدٍ منحه الله شمساً مشرقة كوجوه سكانها العامرة قلوبهم بالإيمان، والذي نطالب بهذا الإيمان أن ينعكس على التصرفات. فلا يكفي أن نحافظ نحن على ممتلكات الوطن لأننا عايشنا بناءه، بل لا بد من نقل هذا الشعور لأبنائنا، لا بد من تعميق شعور الانتماء للوطن هذا النسيج الجميل الذي يشكلنا، هذا الوطن الذي تنتهي حروفه بياء الملكية العامة.
وطني: لي، ولك، ولأبنائنا. فالحديقة العامة بجوار منزلك لي ولك، والمستشفى لنا، والمدارس تخصنا، والشارع شارعنا!! تصور أنك أردت عبور شارع فيمنعك أحد من المرور فيه!! بدعوى الملكية الخاصة!
هذا وطنك ولا أحد يمنعك من الاستفادة من أي مرفق من مرافقه، ولكن أحسنْ الاستخدام، هذا هو المطلوب، حتى يستمر العطاء.
الانتماء للوطن يأتي من الأسرة، يبدأ من الرضاعة وينتهي بالقبر..
ما أجمل أن تولد في بلدك و.. تموتَ فيه! ولو نظرنا إلى أولئك الذين يحرصون أن يبقوا في بلادهم أثناء الحروب، ليموتوا بها لأدركنا ما هو الوطن ولعرفنا قيمته!! ولحرصنا على المحافظة عليه وعلى ممتلكاته.
في الوطن حين يخطئ المواطن يجد من يصلحه ويهذبه ويحتويه ليكون مواطناً صالحاً، أما إذا أخطأ المقيم فإنه يعاقب ثم يعاد إلى بلاده وهي الكفيلة بكفه عن ممارسة فساده. تخيل أن تبعد عن وطنك إجبارياً لإساءتك استخدام اسمه، وتسحب منك الأوراق الثبوتية التي تمنحك الحق بالعيش فيه!!
ولقد أشار القرآن الكريم إلى معاقبة المفسد في الأرض بإبعاده عن الوطن بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.
أن تحب وطنك وتحافظ عليه ليس بالأناشيد والأهازيج فحسب، بل الحذر من تلويث اسمه وسمعته برفض الرشوة، والكف عن السرقة والامتناع عن إساءة استخدام السلطة، حتى لو أتيح لك ذلك بتغيير مسميات الرشوة والسرقة.. ويمتد حبك له بالاهتمام بمظهره وعدم تشويه وجهه الجميل.
تُرى هل سيأتي ذلك اليوم وتلك الفرصة الذي نفخر فيه بتنظيف شوارعنا وتقليم أشجار الحدائق العامة وتلميع واجهة المباني، وقبل ذلك إزالة الغشاوة عن بصائر بعضنا ليحبوا وطنهم ويروا جماله!!
وعندها يمكن (لأم محمد) أن تحضر لمكتب المرشدة لتشرب قهوتها فقط وتضع الفنجان بكل ثقة، وتردد جملتها اللطيفة: (عساهن ما يهجرن)!!

ص.ب: 260546 - الرياض: 11342


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved