(دع القلوب في أماكنها) كلمة قالها صلى الله عليه وسلم اختصر فيها كل معاني الشوق والحب للأوطان. فلقد روي أن أبان رضي الله عنه قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة المنورة فقال له: يا أبان كيف تركت مكة؟
قال: تكرت الإذخر (حشيش طيب الرائحة) وقد أغدق، وتركت الثمام وقد خاص فغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دع القلوب في أماكنها.
نعم دع القلوب في أماكنها، عاطفة جياشة وحنين مقيم وشعور صادق يؤكد حب الوطن.
ذكرت بلادي ما استلهمت مدامعي
بشوقي إلى عهد الصبا المتقادم
حننت إلى أرض بها أخضر شاربي
وقطع عني قبل عقد التمائم |
يقول أبو عمر العلاء:
(إذا أردت ان تعرف وفاء الرجل ودوام عهده، فانظر حنينه إلى أوطانه).
ولعظمة هذه العاطفة الإنسانية في حب الأوطان والحنين إلى مراتع الصبا تنزل القرآن الكريم ليطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}.
إنه الحب في أسمى معانيه، وهذا الحب إن لم يقترن بالعمل فهو عواطف جامدة لا تنبت ولا تثمر.
ولا خير في من إن أحب بلاده
أقام ليبكي فوق ربع مهدم |
إن الخير كل الخير في حب للوطن مقترن بالعمل والإنجاز، عمل يتجاوز حدود المصالح الشخصية ليصب في مصلحة الأمة العامة وما لم يكن كذلك فهو عقيم عقيم.
وتلك إحدى مظاهر الوطنية الحقيقية لأنها عملية إنتاج وإبداع في شتى مناحي الحياة، فالوطنية أعمال لا أقوال وإن شئت فقل أقوال مقترنة بالأعمال، وما أروع أن يموت الإنسان دفاعاً عن الوطن، عن القيم، عن العقيدة ورائع أن يضحي بكل ما يملك في سبيل وطنه، ومن أجل حياة كريمة يسمو بها الوطن وتخلد بها القيم وتنعم الأجيال بثمار التضحية. ولكن الأجمل أن يحيا الإنسان من أجل الوطن، لأن الحياة من أجل الوطن رمز لعطاء مستمر ونماء متجدد ونمو أكيد.
على أن الحياة بلا هدف سام نبيل تصهرك في أمتك عاملاً مخلصاً مؤمناً بمبادئها وقيمها متفانياً في الدفاع عنها، هي في الحقيقة حياة بلا معنى، حياة كحياة المخلوقات الأخرى تتغذى على مكاسب الغير. وتنمو كالسرطان في جسد الأمة.
تلك هي ما تعنيه الوطنية عندي وتلك هي الصورة التي تحدد صدق الانتماء الوطني في نفوس أبنائه ومن صور هذا الانتماء:
* الاعتزاز بالانتماء إلى هذه الأمة وإلى هذا الوطن الذي أكرمه الله بأن جعله مهوى الأفئدة ومنطلق الرسالة الخالدة التي أمدت الدنيا بأروع صور الخير وأنصح صور البقاء والخلود {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
* المحافظة على مقدراتها ومكتسباتها الحضارية عبر مسيرتها الوحدوية التي هي علامة بارزة ومثال قوي وتجربة ناجحة بكل المقاييس في تاريخ الأمم الحديث.
* وإلى جانب الحفاظ على هذا الإرث الحضاري تقوم مهمة أخرى ليست بأقل شأن أعني تنمية هذه القدرات والعمل من أجل إثرائها لتصبح أكثر قوة وأكثر أصالة وصلابة.
* الشعور بالمسؤولية شعور يجعل القدرات والطموحات عملاً يثري جوانب حياة المواطن وينسجم مع تطلعات المجتمع وينصهر في بوتقة العطاء من أجل حياة حرة كريمة في ظل وطن حر أبي. عندها تصبح الوطنية والمسؤولية توأمين متلازمين لو انفصل أحدهما عن الآخر ماتا جميعاً.
ونحن نعيش قصة بناء هذا الوطن الشامخ بقيادته وببنيه ورجاله وبعقيدته وبقيمه في يومنا الوطني إنما نستلهم العبر ونستعيد صور البطولة والتضحية والعطاء الذي جعلت من هذه المملكة الفتية والتجربة السعودية درة ثمينة على جبين التاريخ الحديث، ليس لمجرد المباهاة والتفاخر وإنما من أجل تذكير الأبناء بهذا المجد المؤثل وبهذه الملحمة التي صاغها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. تذكيراً يجعل منهم خير حماة لهذا الإرث الحضاري العظيم في ظل هذه القيادة الحكيمة التي أرست بناءها على كلمة التوحيد والعمل من أجل إعلاء كلمة الله.
بارك الله جهودهم، وجهود المخلصين من أبناء الأمة ودحر كيد البغاة والحاقدين. وأفاء على هذه البلاد نعمة الأمن والاستقرار إنه ولي ذلك والقادر عليه.
( * ) وكيل وزارة التربية والتعليم لكليات المعلمين |