المتمعِّن في وضع الأمة العربية والإسلامية على الساحة الدولية يدرك أن هذا الوضع لا يتناسب مع مكانة هذه الأمة المعنوية، ولا مع إمكاناتها المادية والبشرية التي حباها الله. وما من شكٍّ أن وضعاً كهذا يستدعي التفكير فيه ملياً بهدف معرفة أسبابه والعوامل التي تقف وراءه، ذلك أن معرفة الأسباب قد تُسهم في تحديد الوصفة المناسبة لهذا الداء الذي أصبحت آثاره تسري في عروق الأمة، مما أضعفها على الصعيد العالمي في كافة المجالات سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وأنهكها على الصعيد المحلي، فأينما التفتَّ تجد آثار الخلل تتراءى أمامك، فلا فعل مؤثِّراً على الصعيد الدولي في المنظمات الدولية كهيئة الأمم، بل لا عضوية في مجلس الأمن، ولا تأثير في صندوق النقد الدولي ولا اليونسكو، كما أن الناتج القومي ضعيف مُقارناً بغيره من ناتج الأمم الأخرى التي استطاعت أن تنفض غبار الجهل والهزيمة عن نفسها، وتُلملم جراحها، وتُعيد بناء نفسها، وتحتل مكانة مرموقة من خلال ثقل سياسي مؤثِّر وقوة اقتصادية، كحالة الصين التي كانت قبل سنوات غير عضو في هيئة الأمم، ثم دخلت المنظومة الدولية، وأصبح لها مقعد دائم في مجلس الأمن، كما أن إنتاجها المتنوِّع والغزير يغزو أسواق العالم. وبجانب الصين اليابان التي خرجت من الحرب العالمية مهزومةً محتلة، مكبَّلة باتفاقيات ومعاهدات سياسية وعسكرية، ومع ذلك تمكَّنت وفي سنوات معدودة أن تجعل لها مكاناً على الخريطة الدولية، وغزَتْ أسواق العالم هي الأخرى بإنتاجها وتقنياتها، مما حقَّق له احترام الآخرين.
ومن أجل معرفة أسباب ضعف الأمة العربية والإسلامية يتحتَّم طرح تساؤلات عدَّة: فهل السبب ثقافي له علاقة بمنظومتنا الثقافية وطريقة تفكيرنا وتحليلنا ورؤيتنا للأمور؟ أم أن الأمر مرتبط بشحِّ الموارد وقلَّة الإمكانات الطبيعية؟ أم أن السبب سياسي يعود إلى ضعف تراثنا السياسي وعدم قدرة الهياكل السياسية في أوطاننا على التعامل المتبصِّر والتفعيل الجاد لكافة الإمكانات والأوراق المتوفرة؟
لا يمكن الفصل بين ثقافة الأمة في أي مكان من العالم وبين الوضع الذي تحياه، فالثقافة بما تؤصِّله من رؤًى وأفكار وتصورات ومعتقدات وخزعبلات إمَّا أن تمثِّل ميكانزمات دافعة منشِّطة محرِّكة للأمة بكافة فئاتها، أو أن تكون عامل تثبيط وقتل للطموح.
مجتمعات كثيرة تسود فيها ثقافة الاتكالية، وليس التوكل، وثقافة الخرافة والخوف من كل مجهول أو معلوم، والعداء لكل جديد، ثقافة رفض الآخر، وفرق بين الاعتداد بالذات ورفض الآخر، ثقافة شيخ القبيلة أو العمدة الذي يأمر وينهى ويعرف كل شيء، وغيره يجهل كل شيء بما في ذلك شؤونهم الخاصة، هو الذي يفتي لهم فيها، ويوجههم كيف يقومون بها، شيخ القبيلة يتحدَّث وغيره صامت، يتحدَّث في السياسة والاقتصاد والرياضة والفن، بل وفي التخصصات العلمية. ثقافة كهذه لا شكَّ أن أثرها واضح، وهي تعطيل تفكير عدد كبير من الناس وشلِّ حركتهم؛ لأنهم يشعرون بالدونية وبالضعف وعدم القدرة، ولأن إرادتهم معدومة ولا تتحرك إلا بأخذ الإذن من الآخر أو من شيخ القبيلة.
هل توجد مثل هذه الثقافة في العالم العربي والإسلامي؟ لا شك أنها تُوجد ومنتشرة في أوساط متعددة؛ مما يجعل فاعلية الكثيرين محدودة، وعلى نطاق الأسرة أو المعارف فقط. إن هذه الثقافة انعكست بدورها على الثقافة السياسية السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية، ذلك أن العمل المؤسَّسي النيابي القادر على المحاسبة والتقويم لكافة شؤون المجتمع لا يُلمس له أثر بارز ومؤثِّر في المجتمعات العربية والإسلامية رغم قِدَم بعضها؛ لأن ثقافة السكون تجثم في عقول الكثيرين، حتى وإن كانوا أعضاء مجالس نيابية، مما أفقد هذه المجالس فعاليتها وأثرها في نموِّ وتطوُّر هذه المجتمعات.
هل هذه الثقافة متجذِّرة وراسخة؟ لا شكَّ في ذلك، وإلا لما كان وضْع مجتمعاتنا العربية والإسلامية بهذه الصورة من التخلُّف عن الركب العالمي، واللهث وراء ما يُنتجه الآخرون من ثقافة وفكر وتقنية، بل والاعتماد عليهم في كثير من الأمور، حتى أصبحت قضايانا تُناقش في غيابنا وبالنيابة عنا كما حدث في مؤتمر الثمانية.
إن ثقافة اختلاف الرأي والاعتراف به رسمياً وشعبياً تُمثِّل صورة من صور الثقافة، وورقةً يمكن توظيفها لتفادي الكثير من الضغوط التي تمارسها الدول الكبيرة والقوية على الدول الضعيفة. إن الكُتل المتعدِّدة لا تعني الاختلاف في الأهداف، بل التباين في الآليات والطرق الموصِّلة للأهداف، وما حزبا المحافظين والعمل في بريطانيا، والليكود والعمل فيما يسمَّى إسرائيل، إلا أمثلة بارزة على تبادل الأدوار والعمل على خدمة مصلحة الوطن. كما أن مفهوم الصقور والحمائم الذي كثيراً ما يرد ذِكْره في وسائل الإعلام عند الإشارة لموقف اتَّخذته حكومة من الحكومات يدلُّ على النهج العقلي والمنطقي الذي يجعل مصلحة الوطن والأمة فوق مصلحة الجميع؛ مما يستدعي توظيف التباين لخدمة هذه المصلحة، وبأسلوب حضاري لا يمسُّ الأهداف المتفق عليها.
ولعل أبرز مثال على اللُّعب السياسية التي تمارسها الأحزاب والكتل السياسية معارضةُ بعض أعضاء حزب الليكود لسياسة شارون للانسحاب من غزة، ثم معارضة بعضٍ من أعضاء حزب العمل لفكرة تشكيل حكومة مع شارون. وهكذا تُحقِّق ما يُسمَّى بإسرائيل مصلحتها العليا دون أي مساس لها باسم الديموقراطية والمعارضة الشعبية؛ مما يحفظ لها مكانتها وسمعتها الدولية، بالإضافة إلى المكاسب على الأرض.
إن ورقة الضغط الشعبي من خلال ممثِّليه في البرلمان أو أي مجلس آخر، أو من خلال الاحتجاج الواضح والبارز على السياسات التي تمسُّ مصالح الأمة العليا وسيادتها، أمرٌ لم يُستثمر كما يجب في العالم العربي والإسلامي، ولذا كان حظُّه النعت بالديكتاتورية وانعدام الديموقرطية، بالإضافة إلى استغلال الآخرين لإمكاناته، وضياع الكثير من حقوقه، فهل يُمكن التفكير في آليات تساعد على تفعيل هذه الورقة الضائعة؛ كي تكون الورقة الشعبية ورقةً قويةً وضاغطةً نُواجه بها الآخرين ونتخلَّص بها من ضغوطهم؟!
من الأوراق المهمة التي من الممكن أن توظَّف بما يخدم مصالح العالم العربي والإسلامي الموقع الجغرافي المتميز والمطلُّ على الكثير من البحار والمحيطات التي تمثِّل شريان الملاحة والمواصلات البحرية، فماذا تمَّ من أجل تفعيل هذه الورقة والاستفادة منها بصورة مُثلى لخدمة أهداف أمتنا وقضاياها المركزية؟ وما يُقال عن الثروات والمعادن والنفط لا يختلف عما سبق؛ إذ إن هذه الأوراق ما تزال بعيدة عن المسرح السياسي، وهذا خلاف ما تقوم به دول مثل أمريكا ودول أوروبا النافذة، فبضاعها مسخَّرة لخدمة الأهداف العليا، فتجارة السلاح والطائرات تُربط بمواقف سياسية يتمُّ على ضوئها إجازة الصفقة أو منعها، حتى إن صفقة سلاح قد يُوافق عليها البيت الأبيض، لكن الكونجرس يعترض على بيعها لدولة من الدول، وذلك بغرض الابتزاز وتحقيق مكاسب إضافية قد تكون اقتصادية أو سياسية أو غيرها.
إن أهمية هذه الأوراق مجتمعةً أو متفرقةً لا يُجادل عليها أحد، لكن حسن توظيف هذه الأوراق واللعب فيها حسب الظروف والمواقف هو الذي يجعل منها ذات جدوى وقيمة، لكن الورقة الشعبية، ممثلةً في المثقفين والمفكِّرين والعلماء وأصحاب الرأي، تبقى هي الأكثر تأثيراً؛ لأنها الأقوى، وورقة يُعمل بها في كثير من أنحاء العالم، فمتى يحين الوقت لتفعيلها؟!!
|